اليازغي، الساسي والفاسي


كان من الضروري أن آخذ المسافة الزمنية الضرورية مع ثلاثة أحداث و ثلاثة مواقف قبل أن أعلق عليها، حتى يكون هدفي من التعليق واضحا وهو مناقشة الجوهر وليس الثأتير في الموقف الآني بهدف أو خلفية ما.
وسأتطرق للمواقف الثلاث حسب تسلسلها الزمني. هي مواقف اعتبرها كانت خاطئة حتى لو ولو البست ثوبا ديمقراطيا.ً وسأشرح موقفي من كل موقف على حده.
الموقف الأول، هو عدم ترشح الأستاذ محمد اليازغي، الكاتب الأول لحزب الإتحاد الاشتراكي أنذاك، لانتخابات 2007 ، وتنازله عن الدائرة لصالح مناضلة من حزبه للترشح بها بدعوى التداول. الموقف الثاني، هو استقالة الأستاذ والصديق محمد الساسي من موقع نائب الكاتب الأول للحزب الاشتراكي الموحد بسبب عدم تمكنه من الفوز بالدائرة التي ترشح بها. والموقف الثالث، هو ما اعتبره الأستاذ عباس الفاسي الوزير الأول خلال مشاورات تشكيل الحكومة من كون المنهجية الديمقراطية لاتسمح باستوزار المرشحين الذين لم يتمكنوا من الفوز بالدائرة الانتخابية التي ترشحوا بها. علما أن هذه الفتوى لم تكن للسيد الفاسي نفسه بل من طرف المحيط الملكي حسب ما فهمنا مما تداولته الصحافة. ولكن مادام الأستاذ عباس الفاسي قبلها وعمل بها سنعتبرها من صنعه.
بالنسبة للأستاذ محمد اليازغي. بداية منطق التداول على المسؤولية وتحديد عدد ولايات لا يمكن تجاوزها، هو منطق ديمقراطي سليم وهو ما يجب أن يسود. والحكمة منه؟ الحكمة من وراء ذلك أن لايعمل أي شخص يتحمل مسؤولية ما على استغلال هذه المسؤولية نفسها ليفرض نفسه فيها بشكل دائم. عندما يعرف أن مدته محدودة على الكرسي مهما فعل، سيتفرغ لخدمة الصالح العام عوض الانصراف و"التخلويض" واستغلال النفوذ للبقاء في منصبه. لكن هذه القاعدة تسري على المواقع التنفيذية والتي تتيح سلطة أو سلطا ومالاً تحت التصرف، من المحتمل أن يستغلها المسؤول للبقاء في المسؤولية أو إعادة انتخابه. أما أن ينتخب الشخص عضوا بالجماعة المحلية أو البرلمان، وكل دوره نظريا أن يبلغ صوت الناخبين ويراقب، ولا سلطة له أو أموال عمومية تحت تصرفه مباشرة، فإن قاعدة التداول لا تشملها.العكس كل ما كان الشخص فعالا وملتصقا بالناخبين كلما كان عليه الاستمرار، لأن استمراره مضمون بإرادة ورغبة الناخبين وليس سلطة القرار أو المسؤولية أو المال.
لذلك، كان على الأستاذ اليازغي، مثلا، أن يتنحى عن الكتابة الأولى لحزبه (الموقع يعطيه الكثير من السلط) ويتنحى من موقع الوزارة، وينزل غمار الانتخابات وليس العكس. وهذه بدعة التداول المغلوط.
الصديق محمد الساسي، ترشح للانتخابات وانهزم واعترف بفشله وبحث في أسباب ذلك بموضوعية، وأحيانا بجلد الذات أمام الرأي العام، وقرر التنحي عن موقع المسؤولية داخل قيادة الحزب. مسؤولية الساسي داخل الحزب احتلها لأن المناضلين وضعوا ثقتهم فيه وفي رفاقه بالمكتب السياسي لإدارة شؤون الحزب. وهذا معناه أن فشل أو نجاح مهمته التي انتخب من أجلها تقاس بمدى نجاحه أو فشله ومعه قيادة الحزب في إدارة شؤون الحزب والانتخابات جزء منها. بمعنى أن أعضاء الحزب حين اختاروا الأستاذ الساسي نائبا لأمينهم العام (وكل القيادة طبعا) لم يقوموا بذلك ليفوز الساسي بدائرته، بل لينجح الساسي ورفاقه بالقيادة في تحسين موقع الحزب. لذلك، إذا كان للصديق الساسي أن يقدم استقالته، كان عليه أن يقدمها بسبب كون الحزب فشل في الانتخابات حتى وإن نجح الساسي في دائرته. الاستقالة كانت أخلاقية وطبيعية لكن الأسباب كانت غلط!
الأستاذ عباس الفاسي، أبلغ حزبه وأحزاب الأغلبية أن الذين ترشحوا ولم يفوزوا بدوائرهم خلال الانتخابات التشريعية لا مكان لهم بالحكومة المقبلة "احتراما للمنهجية الديمقراطية". وهذا منطق سليم جدا، ولكن ليس في حالة المغرب. حين أراد السيد "فيلون"، الوزير الأول الفرنسي، تشكيل حكومته صرح بنفس الشيء، وقال إن المنطق الديمقراطي يقتضي ذلك، ما عدا بعض الاستثناءات إذا كانت خبرة الإطار ضرورية للحكومة.
والسبب؟ في فرنسا يتم اختبار الوزراء من داخل البرلمان والاستثناء النادر أن يكون الوزير ليس عضوا منتخبا بالبرلمان. في هذه الحالة، سيكون من قلة الحياء اختيار الوزراء من ضمن الفاشلين في الفوز بمقاعدهم. ولكن في المغرب نجد أن الغالبية العظمى من الوزراء لايتم اختيارهم من بين أعضاء البرلمان، بل هم أفراد لم يتقدموا حتى للمنافسة. إذن، لا علاقة للمنهجية الديمقراطية برفض سياسي شمر على سواعده ولم يتمكن من الفوز بالدائرة وقبول آخر ربما لايعرف حتى ما هي الانتخابات. قد نصبح غدا أمام أطر سياسية ترفض الترشيح حتى تحافظ على حظوظها في الإستوزار. وأنداك فليملئوا البرلمان بالدرجة الخامسة من السياسيين ... وهده بدعة المنهجية الديمقراطية. ثلاث مفاهيم ديمقراطية توضع في غير محلها وها نحن أمام بدع غير ديمقراطية.
الطيب حمضي
25 avril 2008

الحزب الاشتراكي الموحد

."مقال صادر بجريد ة "الحياة
أشهر عدة قبل الانتخابات التشريعية لسنة 2007 كتبت مقالا تحت عنوان"أهل اليسار". ما يهمني أن أتذكر منه اليوم هو
توقعي لهزيمة اليسار في الانتخابات التشريعية ومطالبتي وقتها أن تكون الهزيمة المقبلة حافزا على التفكير في تجميع قوى اليسار والمؤمنين بقيمه. جرت الانتخابات وانهزم اليسار بكل مكوناته، المشارك في الحكومة، والمعارض. لكن هل يتم التفكير في لم شمل اليسار؟ الواقع أننا أمام مشهد تفتت اليسار وتراجعه، وإذا لم يتدارك الأمرعاقلوه سنصبح أمام اندحاره.
بداية، هل اليسار كفكر هو مكون ضروري للمجتمع حتى تُبدل الجهود لتقويته ولم شمل أهله؟ إن قيم اليسار القائمة على التضامن والعدالة وسمو الإنسان تزداد أهمية بالنسبة للبشرية كلها وليس المغرب فقط، يوما بعد يوم، أمام اختلال التوازنات بين الدول و بين الفئات الاجتماعية داخل الدول نفسها. هدا ما يفسر تحول أمريكا اللاتينية، مثلا، تدريجيا نحو حكم اليسار ويفسر انتصارات اليسار بأوروبا (وانهزاماته كذلك) .
لكن ماهو دور اليسار اليوم بالمغرب؟ هل هو النضال من أجل الاشتراكية العلمية وديكتاتورية البروليتاريا، وتأميم وسائل الإنتاج مثلا؟.
هدا هو السؤال الأولي والمركزي. أي دور أو أدوار يجب ان يلعبها اليسارأو بعبارة اوضح أية وظيفة لليسار اليوم؟ سؤال ثاني. باي وسائل عمل؟ العمل داخل المؤسسات وحدها؟ علما ان قوة اليسار هي في قدرته على التفاعل مع الرأي العام والشارع وقدرته على تحريكه. إذا كان الأمر كذلك أي موقف من التشتت النقابي الذي لا معنى له بالمطلق اللهم إضعاف القوة الأساسية لليسار؟ وأي إستراتيجية للعمل داخل المجتمع المدني؟ سؤال ثالث: ما هي الأولويات؟ لأن الأهداف قد يكون متفق عليها، لكن ترتيب الأولويات قد يغير كل شيء. سؤال رابع،حول الذات الحزبية: ما هي مواصفات الحزب أو المكونات اليسارية (الديمقراطية الداخلية، التنظيم ، التحالفات ..) ؟ هذه الأسئلة مركزية بالنسبة لليسار ككل وبالنسبة لكل حزب يساري على حده.
بالنسبة للحزب الاشتراكي الموحد، الذي كنت عضوا بمكتبه السياسي وحاليا عضو بمجلسه الوطني، يمكن لي أن أعرب عن تشاؤمي من مستقبله إذا استمر الوضع على ما هو عليه. فالحزب، في تراجع انتخابي وتنظيمي وإعلامي وحتى سياسي بالنظر لبعض مواقفه المعبر عنها من خلال بلاغات مكتبه السياسي. الطامة أن باقي أحزاب اليسار ليست أحسن حالا.
أكيد أن للبيئة العامة أي الظروف الموضوعية صلة بالموضوع، لكن الظرف الذاتي وعدم قدرة قيادة الحزب على قراءة مفردات الواقع والتحولات الجارية والتحديات كلها عوامل تزيد من أزمة الحزب. أصبحنا اليوم أمام هياكل لا تشتغل، وليس لها قضايا تشغلها ولا أولويات ولا خارطة طريق للحزب ولا للمناضلين. القيادة وبعض الهياكل تجتمع للضرورة وكفى. هناك إحساس لدى المناضلين أنه مهما وقع فلن يغير في واقع البلاد ولا العباد شيئ.
مباشرة بعد المؤتمر الأخير، وقبل الانتخابات، اقترحت على بعض الإخوان أن يجتمع 10 إلى 15 عضوا من أطر الحزب يومين أو ثلاث أيام متتالية للتفكير في مستقبل الحزب ومستقبل البلاد بطريقة استراتيجية لا تحكمها المواقف الآنية أو المرحلية رغم أهميتها. اقترحت أن نطرح كل الأسئلة والبسيطة، منها على الخصوص: ما هي مشاكل المغرب اليوم؟ أولوياتها وحلولها أو إمكانيات حلها؟ هل حزبنا ضروري؟ ما هو دوره وأدواره؟ ما هي توقعاتنا لانتخابات 2009 و2012 و2017 في أحسن الأحوال وأسوئها؟ ما هي السيناريوهات التي تنتظر المغرب والمغاربة؟ ما معنى الاشتراكية اليوم بالنسبة لبلادنا؟ ما هي الإصلاحات المستعجلة وكيف تحقيقها؟ ما هي دائرة حلفائنا وحتى خصومنا؟
إذا تمكن أخونا محمد مجاهد، الأمين العام للحزب، من توزيع دواء سحري على كل مناضلي الحزب وساروا وراء القيادة سير رجل واحد بوحدة تامة، هل معنى ذلك أننا سنغير شيئا في واقع البلاد ؟ أم قبل دلك علينا أولا أن نحدد ماذا نريد اليوم، وكيف نريده، ومع من نريده؟ إذا لم تكن الأجوبة واضحة في أذهاننا يستحيل أن تكون واضحة لدى المواطنين الذين ندافع عنهم وننتظر أن يساندوا مشروعنا ويسيروا لأجله؟
إن المراحل الدقيقة مثل التي نعيش تحتاج لتفكير عميق وبعيد المدى تُصاغ خلاصاته وتوضع رهن إشارة المناضلين لإغنائها وإثرائها من أجل رؤية واضحة للمستقبل ومستلزماته. يمكن لخلية تفكير إستراتيجية أن تقدم عناصر الإجابات بعد فترة وجيزة من العمل لإعادة سكة العمل الحزبي لطريقه السليم. تقدمتُ بالمقترح ليس لأن الحزب الاشتراكي الموحد هو حزبي وأريد انقاده من باب انقاد بيت العائلة، ولكن إيمانا مني بان الأمر يتعلق بتجربة حزبية وفكرية وسياسية بلادنا في أمس الحاجة لمثلها. وايمنا مني كذلك بأن مقارباته مفيدة لليسار المغربي وللمغرب، يكفي فقط أن تعاد صياغتها وتوضيحها على ضوء مقاربة استراتيجية مستقبلية. إنها نفس المهمة تنتظر باقي أحزاب اليسار بل اليسار ككل.
الطيب حمضي
18 avril 2008

الفقراء والعُلوج

العُلوج كلمة دخلت قاموسنا اللغوي سنة 2003 إبان الهجوم الأمريكي على العراق حين كان وزير الإعلام العراقي - الله يذكرو بخير- يتحفنا كل صباح خلال ندواته الصحافية عن "انتصارات" الجيش العراقي البطل بقيادة القائد صدام حسين على القوات الأمريكية التي كان يصفها بالعلوج! في وسط قرف الحرب والهزيمة كان الصحاف الوحيد الذي يرفع المعنويات بمعجمه اللاذع ضد الأمريكيين. العلوج كلمة لم نتعرف على معناها رغم البحث الذي قام به الكثيرون وتعداد الروايات حولها، ولكنها كلمة قدحية. وهذا هو المهم، ولكن ليس هذا هوالموضوع.
حديثي اليوم عن الفقر والفقراء بالمغرب وعن صندوق المقاصة. الفقير هو من يعيش بأقل من دولار واحد في اليوم. ومنذ سنة 2004 فإن العائلة الفقيرة هي التي تصرف أقل من 1687 درهم في الشهر في المدينة أو 1745 في البادية، علما أن متوسط عدد أفراد الأسرة هو 5.6 بالمدينة، وأكبر منه بعض الشيء في البادية 6.4. عائلة بالمدينة يصل عدد أفرادها بين 5 إلى 6 أفراد، تصرف أقل من 1687 درهم، هي أكيد فقيرة. وحتى من تصرف أكثر من ذلك فهي ليست أحسن حالا، حتى وإن لم تدخل خانة تحت عتبة الفقر. وهناك مئات الآلاف من العائلات التي تعيش وضعية الهشاشة، أي أنها فوق عتبة الفقر- نظريا- ولكن يمكن أن تنزل تحت هذه العتبة لأي ظرف طارئ يحدث بحياتها كحالة المرض مثلا.
أغلب هؤلاء الفقراء لا يمكن أن يطمعوا في تحسين وضعيتهم بالرفع من الأجور أو خفض الضريبة. لأن أغلبهم خارج هذه الدورة. حين ترتفع الأسعار ( النقل، المواد الغذائية، السكن، التطبيب ...)، المواطنون الموظفون و الأجراء بالقطاع الخاص وأصحاب المهن الحرة يمكن لهم –نظريا- العمل على تعويض ضعف قوتهم الشرائية بالمطالبة برفع الأجور أو إعادة تسعير خدماتهم. لكن الأكثر فقرا، كلما ارتفعت المعيشة كلما وجدوا حياتهم تصعب أكثر. هنا يبرز دور صندوق المقاصة الذي يخصص ملايير الدراهم لدعم المواد الأساسية. الفقير الذي يمتلك دراهم قليلة وليس له من سبيل للزيادة في دخله، عوض أن يشتري الخبز أو الزيت أو قنينة الغاز مثلا بأثمنتها الحقيقية، يدفع هو بعض الدراهم والدولة تساعده بالباقي. فعوض أن يشتري قنينة الغاز ب120 درهم، وهو ثمنها الحقيقي هذه الأيام، يدفع هو 40 درهم والدولة تؤدي عنه 80 درهم عن طريق صندوق المقاصة. المشكلة أن الدولة تدفع 80 درهما في القنينة كدعم للفقير وللغني على حد سواء. وبما أن الغني يستهلك 4 أو 5 قنينات في الشهر عوض واحدة التي يستهلكها الفقير، فإن الغني يستفيد من دعم الدولة أكثر من الفقير!!
وهكذا تبين أن 20% من العائلات الأكثر غنى تستفيد من 40 إلى 50% من الدعم، بينما 20% من العائلات الأكثر فقرا تستفيد من 9% من الدعم فقط!. من غير المنطقي مطلقا أن يذهب بعضنا للسوق كل صباح ويصرف 300 درهم مثلا، فيها 50 أو 100 درهم كدعم من الدولة، والفقير يصرف 10 أو 20 درهما فيها 3 أو 4 دراهم كدعم. هذا معناه أن الأغنياء يأكلون كل صباح الدعم المخصص للفقراء أكثر مما يأكله الفقراء أنفسهم.
صندوق المقاصة طبعا ليس حلا لمشكلة الفقر لكنه انقاد لمواطنين من النزول للدرك الأسفل من الحياة بكل حيوانيتها، في انتظار حلول حقيقية. والدعم ليس بالضرورة ان يوجه فقط لمن هم في الدرك الأسفل من الفقر، والا سينتقل من هم في وضعية الهشاشة لمرتبة ما دون عتبة الفقر بل تتأثر دورة الاستهلاك بكل خطورتها.
لابد من إعادة النظر في صندوق المقاصة، وإعادة توجيه ملايير الدعم حتى لا يستفيد منه من لا يستحق دلك. لذلك، يجب إعادة النظر في طريقة عمل الصندوق. هذا لا يعني بالمطلق أن باقي المواطنين الأقل فقرا أو الطبقة المتوسطة لها الإمكانيات الكافية لمواجهة حذف الدعم عنها. حين سيصبح على المواطن أن يشتري المواد بثمنها الحقيقي، أي مع خسارة لقدرته الشرائية، بالتأكيد هذه مشكلة. لكن حلها يجب أن يتم عن طريق إعادة النظر في سياسة الدولة ككل من جهة والتفاوض والنضال حول الأجور والضرائب والتعويضات والتغطية الاجتماعية. وليس حلها عبر أكل الأموال المخصصة أساسا للفقراء. المشكلة من جهة أخرى أن الجهاز الإداري لا يمكنه كما -هو متعارف عليه اليوم- أن يحدد غدا بنزاهة من هو الفقير. و إلاّ سنجد الفقراء يشترون المواد بأثمان مضاعفة على ما هي عليه وأصحاب المعارف يستفيدون من الدعم أكثر من السابق! صحيح أن خريطة الفقر بالمغرب أضحت واضحة بعض الشيء بالمغرب. هدا نظريا وفي سياق الإحصاءات. أما حين سينتقل الأمر لإعطاء دعم للبعض وحرمان آخرين من دلك ستتغير المعطيات ويصبح الفقير غنيا والغني فقيرا على الأوراق!
الأجراء والموظفون والطبقة الوسطى وحتى الغنية لها بعض المقومات والقدرة على الاحتجاج والنضال وتحقيق المكاسب، لذلك فإن من شأن مواجهتها لحقيقة الأسعار ولو نسبيا سيعمل على ترشيد النفقات والاستهلاك من جهة، ويجعلها تدخل عامل الأسعار في حساباتها المطلبية، ويجعل من معركة العيش معركتها كذلك وليس معركة مواطنين فقراء لاحول لهم على خوضها. الفقراء يجرون مآسيهم وحرمانهم إلى اليوم الذي ينتفضون فيه آتين على الأخضر واليابس، أو يتخذ الاحتجاج أشكالا أخرى من جريمة وانحراف...
علينا أن نفكر كيف يتم دعم الفقراء، وهده أولوية الأولويات. ونجد كذلك الحلول المناسبة لعدم ضرب القوة الشرائية للمواطنين الغير ميسورين وهم الأغلبية. وفي دلك حماية لدورة الاستهلاك وللاقتصاد الوطني. على المجتمع مواجهة مشاكل غلاء المعيشة بأساليب أخرى غير مزاحمة الأغنياء للفقراء في دعم ضئيل أصلا. و إلا سنجد الفقراء يوما قد قسموا المجتمع إلى قسمين: المحرومون وهم الفقراء، والعلوج وهم الأغنياء الذين يصرون على حل مشاكلهم على حساب المحرومين.استعمالي لمصطلح العلوج هو، طبعا، على سبيل المزحة الصحّافية ! لكن فقر الفقراء - كما صبرهم- أكيد له حدود، ليس من الضروري أن نعرفه
ا !
10 avril 2008
الطيب حمضي

الأفكار والرصاص

تلقى الأستاذ سعيد لكحل تهديدات بالقتل خلال الأسابيع القليلة الماضية عن طريق ثلاث رسائل. والأستاذ لكحل مثقف مغربي، مناضل، باحث وله إسهامات في الصحافة الوطنية في القضايا المتصلة بالجماعات الإسلامية وأفكارها. وقد تلقى التهديدات بالقتل لثنيه عن كتابته آرائه وتحليلاته ووجهة نظره التي يقدمها من خلال ما داوم على كتابة في هذا المجال على صفحات يومية "الأحداث المغربية".
الأستاذ سعيد لكحل يختلف مع طروحات وأفكار الجماعات الإسلامية، فحاول أن يقارع "أفكارها"، بل أن يقارع سواطير بعضا ورصاصها ومتفجراتها وأحزمتها الناسفة، أن يقارع كل ذلك بالأفكار وبالقلم وبالمناقشة وبالمحاججة وبالاحتكام إلى عقول الناس. ومع ذلك، ووجهت أفكاره بالتهديد بالقتل إن هو لم يتوقف عن الكتابة...!!
هل هو تهديد لسعيد لكحل؟
أنا جازم بأنه مجرد حلقة في مسلسل لو انطلق قد لا ينتهي. قد أكون متشائما. لكني أفضل أن أكون كذلك ونتحرك بسرعة عوض الخلود لطمأنينة زائفة قد تأتي بموجة يصعب وقفها. لنتذكر مثلا ما عاناه أشقاؤنا الجزائريون من مثقفين، وصحافيين وفنانين. في وقت ما من الأزمة أصبح مصيرهم إما القتل أو اختيار المنفى الفرنسي لمن استطاع إليه سبيلا!
ما تلقاه الأستاذ لكحل هو تهديد بالقتل، سواءا كان ذلك صادرا عن جماعة أو عن أفراد أو حتى فرد واحد. سواء كان ذلك تهديدا حقيقيا أو ترهيبا، سواء كان جديا أو حتى مجرد "مزحة".. كيف ما كان الحال الرد يجب أن يكون واضحا.
نحن متضامنون، وتضامننا هو حماية لكل صاحب فكرة يعبر عنها بطرق حضارية حتى وإن كانت على طرف النقيض مع ما نؤمن به. بالتأكيد على الجهات الأمنية والقضائية تعقب صاحب أو أصحاب هذه الرسائل وتقديمهم للعدالة وتوفير الحماية الضرورية لمواطن يوجد تحت ثقل تهديدات بالقتل. لكن هذا الرد غير كاف. إن على المجتمع أن يرسل رسالة واضحة لأصحاب رسائل التهديد. إن من يمس شعرة من مواطن آخر بسبب أفكاره لا مكان له بيننا، سواء كان الجاني فردا أو جماعة أو جهازا أو حكومة. الأنظمة الدكتاتورية تعتدي على المواطنين والمعارضين لها في حريتهم وأرزاقهم وأحيانا في حياتهم بتبرير المصالح العليا للبلاد. والجماعات الإرهابية تعتدي على أرواح الناس بمبرر الدفاع عن الدين أو الطائفة أو المصالح السياسية.
المناظرات الفكرية وسائلها العقل والأفكار. والقلم والغلبة للأفكار المُقنِعة والمنطقية والمعتمدة على الحجج. الأفكار لا تواجه بالرصاص والسواطير والمتفجرات. وليس كل من له "القدرة" على إيذاء مخالفيه أو له الوقاحة لتهديدهم أو تهديد عائلاتهم هو بالضرورة الصائب! الأفكار لا تكون صائبة لأن حامليها "بلطجية"، مثلا أولهم مسدسات وسكاكين ومستعدون لنحر مخالفيهم في الرأي! الأفكار لا تعلو وتسمو بقوة الاغتيال والترهيب. الأفكار أصلا لا تحتاج لقوة وأسلحة ترافقها وتسبقها وتفسح لها الطريق و"تحميها" أو تفرضُها على الناس، لأن الأفكار تصنع طريقها بنفسها ولا تحتاج إلا لمنطق سليم هو يوصلها لحيث يجب أن تصل.
هل فعلا نؤمن بالرأي الآخر وبحقه في أن يعبر عن رأيه؟ في "تقاليدنا" السياسية وحتى الاجتماعية، لازلنا نتعلم هذه القيمة النبيلة في حياتنا ونتمرس عليها. لكننا في كل الأحوال نرفض أن تنوب عنا المسدسات والسكاكين في "إقناع" من يخالفونا في الرأي!
لا يهمني كثيرا أن أتفق أو أختلف مع الأستاذ لكحل أو غيره من المثقفين، لكني مثلكم متشبث حتى النخاع بحقه في أن يدلي بأفكاره وبالتعبير عنها وعرضها. ورافض حتى النخاع أي فكرة أو قيمة أو مبدأ يأتيني على ظهر دبابة أو فوهة مسدس أو حد السكين.
هذه القيم هي ما يجب علينا أن نتبعها وندافع عنها ونحميها. هل نحتاج لضحايا لنتحرك من أجلها؟
في بعض المراحل من تاريخنا، قد نعتبر أن هناك اتفاقا أو اقتناعا عاما ببعض القيم الكونية. لكننا ككل الشعوب لسنا في منأى عن الردة. ومثل هذه التهديدات بالقتل هي دق ناقوس الخطر بمراحل ردة. إن تحركا في الأوان هو حماية لحياة الناس بالتأكيد، ولكن كذلك حماية للمجتمع كله وحماية حتى لمثل هؤلاء الذين أطلقوا التهديدات، حماية لهم من الانزلاق في مثل هذه الأفكار والممارسات.

نحن وموريتانيا: الكماشة؟

انتهت الحرب الباردة وانتهت التحالفات على الأسس الإيديولوجية وتشابه الأنظمة وتلك المبنية على العلاقات الشخصية بين زعماء الدول. نحن اليوم أمام موجة جديدة من العلاقات الدولية، تتحكم فيها أساسا المؤسسات وليس الأشخاص، المصالح المتبادلة وليس الوفاء الشخصي. من هذا المنظور يمكن فهم تبدل المحيط الجهوي والدولي حولنا كما حول غيرنا من البلدان والشعوب. اليوم ليس هناك حليفا دائما أو صديق دائم. لأن ريح الانتخابات الديمقراطية تهب على كل من حولنا، ولم يعد ممكنا أن يخلد في كرسي المسؤولية ومركز القرار نفس الأشخاص لعقود من الزمن.
موريتانيا جارتنا الجنوبية: أخذتها كنموذج لتحليل وجه آخر لعلاقاتنا الدولية. أكيد أن الفاعلين السياسيين يلاحظون أن الحراك السياسي بموريتانيا وتقدمها في البناء الديمقراطي بقدر ما يثلج صدورنا لما في ذلك مصلحة الشعب الموريتاني الأصيل، بقدر ما له من عواقب قد تكون مخلخلة لميزان القوى إقليميا ليس بالضرورة في مصلحتنا.
لم نعد في زمن تحل فيه مكالمة هاتفية بين رئيسي الدولتين أقوى الأزمات وتدلل الصعاب الدبلوماسية.
نحن بلد له حدود برية مع دولتين. واحدة في الشرق لنا معها عدة نتمنى أن تزول في اقرب الآجال لكنها مشاكل قائمة، وأخرى جنوبا كانت تقليديا دولة صديقة للمغرب. أهميتها تزداد لأنها هي الأخرى على حدود المنطقة مصدر النزاع. سواءا من الناحية السياسية أو الأمنية أو العسكرية، لا يمكن للمغرب أن يسمح لنفسه أن يكون وسط كماشة. لذلك فالحفاظ بل تطوير علاقاتنا مع موريتانيا هي من أهم المفردات الإستراتيجية لمستقبل علاقات بلادنا الإقليمية. الدولة استشعرت التغيرات منذ مدة طويلة، لذلك دفعت بعدد من الاستثمارات في قطاعات إستراتيجية بالجارة الجنوبية. مجهودات جيدة لكنها ليست كافية. في مثل هذه الأوضاع الرافعة الاقتصادية مهمة لأنها تمكن من ربط علاقات صلبة، لكن يجب أن يصاحبها تعزيز للعلاقات السياسية والمدنية ليس بين الحكومات وحدها ولكن بين الشعوب وقواه الحية كذلك.
كم من حزب مغربي له علاقة بأحزاب موريتانية؟ نقابات؟ هيئات؟ لنا علاقات مع دول أوروبية وفي أمريكا اللاتينية. ... ولكن مع جيراننا وخاصة موريتانيا لا شيء يذكر أو تقريبا. ماذا نعرف عن الإعلام الموريتاني؟ عن الأحزاب الموريتانية؟ عن الفاعلين؟ عن الحقوقيين؟ عن الشعراء؟ ... إنها مسؤولية الجميع. لنا تجربة حزبية وإعلامية ومدنية وحقوقية وتنموية متقدمة نوعا ما مقارنة مع عالمنا العربي. وسيكون من الأنانية القاتلة عدم تقاسمها مع أقرب المقربين لنا. علينا أن نبدل جهودا كبيرة للذهاب والتواجد هناك واستدعاء الشباب الموريتاني، والمرآة الموريتانية والحقوقي الموريتاني والإعلامي الموريتاني لحضور الفعاليات التي نقيمها هنا. قد لا تكون في الجانب الأخر شبكة قائمة الدات بإمكانياتها البشرية والمادية لنسج علاقات ثنائية: هده مسؤوليتنا. لما لا نوفر لنظرائنا الظروف التي تسمح لهم بالمشاركة معنا؟ ليس بالضرورة للهيئات والفعاليات الحاكمة بل من المعارضة كذلك بمختلف أصنافها، بل وحتى المعارضة لمواقف بلادنا ، لم لا. هذه هي فرصتنا وفرصتهم لنكتشف بعضنا بعض. ليروا المغرب وعيشوا قضاياه وليس فقط نسمع عن بعضنا .
إذا فكرنا بمنظور التبادل التجاري للعقد القادم من الزمن قد يبدو هدا المقال مجانبا لتحدياتنا الحقيقية. لكن إذا فكرنا في البعد الإستراتيجي لعلاقتنا بالجارة موريتانيا، سنكتشف أنه ربما أضعنا زمنا طويلا في هذا المجال.
العرب لم يتذكروا أن هناك شعبا ودولة اسمها موريتانيا إلا يوم أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ! ! قبلها لم تكن بمفكرتهم لدولة بهذا الاسم ! بدار فور شعب مسلم يعاني من الإبادة، ونحن صامتون من المحيط إلى الخليج. يوم يلملم سكان الإقليم جراحهم ويديروا ظهورهم لنا، سنتساءل لماذا أو ننعتهم بالخيانة. الأكراد شُرّدوا وذُبحوا على يد صدام حسين، ونحن صامتون من المحيط إلى الخليج، ويوم "احتموا" بالأمريكان، اكتشفنا "خيانتهم" للعروبةَ ! هذا السلوك لا نريده لبلادنا ولجيراننا ولأصدقائنا.

4 ابريل 2008
الطيب حمضي

الانتقال إلى أين؟

هل نعيش زمن الانتقال الديمقراطي؟ بالتأكيد. في رأيي على الأقل، السؤال لا يتعلق بتوصيف المرحلة، بل بتحديد المدى الزمني الذي قد يأخذه هذا الانتقال.
الديمقراطية هي أن يقرر الشعب عبر ممثليه المنتخبين في مصيره. والمغرب، يوما بعد يوم، يشهد انتقالا ونقلا ولو بطيئا لدوائر اتخاذ القرار من مركز مغلق إلى مؤسسات مفتوحة. القضية، قضية زمن وقضية وتيرة. فالمغرب سيتحول إلى ديمقراطية حقيقية طال الزمن أم قصر، بإرادة فاعليه السياسيين أو بدونها، لأن هذا هو اتجاه التاريخ الذي يدركه الفاعلون أنفسهم قبل غيرهم.لكن، هل نترك مستقبل بلادنا لحركة التاريخ وحدها؟ أم ننجز التغيير بإرادية تستحضر تحديات الحاضر والمستقبل ومحيطنا الإقليمي والجهوري والدولي؟
الانتقال الديمقراطي يمكن المؤسسات المنتخبة من سلطات واسعة لتدبير الشأن العام. وهو ما يعني بصيغة أخرى نقل السلطات إلى الأحزاب السياسية التي تحصل على ثقة الناخبين من خلال الاقتراع العام. وإذا كانت الأحزاب غير ديمقراطية، ولا تجري مؤتمراتها في الوقت المحدد، وقوانينها لا تسمح بالتداول على المسؤولية، وطرق اتخاذ القرار داخلها لا تسمح بمشاركة المنخرطين في صنع القرارات، وليست هناك آليات للمراقبة والمحاسبة داخلها، فإذا كان واقع الأحزاب على هذه الشاكلة، سنكون بصدد نقل السلطات من مركز مغلق إلى محيط مغلق، وإلى أحزاب لا تمثل إرادة الناخبين، بل إلى هيآت تشتغل بمنطق «شركات المساهمة».
بهذا المعنى، حتى وإن نجحنا في توسيع اختصاصات وسلطات المؤسسات المنتخبة، فإننا لن نكون قد أنجزنا الانتقال الديمقراطي، لأن هذه المؤسسات المنتخبة نفسها ليست نتيجة تنافس حقيقي بين هيآت ديمقراطية، بل هي «اغتصاب ديمقراطي» لإرادة الناخبين.
لنتمكن من إنجاز انتقال ديمقراطي حقيقي، علينا من جهة تطوير الآلية الدستورية التي تسمح بجعل مركز القرار الرئيسي هي المؤسسات المنتخبة، وفي نفس الوقت، إن لم يكن قبل ذلك، أو على الأقل موازاة مع ذلك، علينا تطوير الإطار القانوني والسياسي الذي يجعل من الأحزاب إطارات ديمقراطية من شأن التنافس بينها ومن خلال التنافس بين برامجها، ترجمة إرادة الناخبين.
فهناك العديد من الدول التي تتبنى نظام الديمقراطية الصورية، إما من خلال تزوير نتائج الانتخابات، أو من خلال خلق أحزاب صورية ومنع القوى المعارضة من العمل السياسي، او من خلال مؤسسات صورية أصلا.
في المغرب، ليست هذه وضعيتنا، فأحزابنا، مهما قيل عنها، ليست صورية أو جميعها من صنع السلطة، أو كلها تابعة لها. هي أحزاب حقيقية ولدت في خضم الصراع وعاشته وطورت نفسها معه وبه. لكن، للأسف، هذا لا يعني بالضرورة أنها إطارات ديمقراطية أو كفأة لإنجاز الانتقال الديمقراطي. فإذا كان الزعيم يبقى زعيما طيلة أربعين سنة، والوزير لا يغادر منصبه إلا بانقلاب ضده داخل حزبه، وإذا كانت المسؤولية الحزبية غير متداولة ومن خلالها المسؤولية العمومية، فلا معنى هنا لانتقال مراكز القرار.
التاريخ يدرك مجراه، لذلك في الوقت الذي تأجج فيه العمل نحو الانتقال الديموقراطي، وبدأت ملامح الانتقال تظهر، لم يعد الصراع فقط مع الدولة بل شهدت الأحزاب نفسها صراعات وتصدعات وانشقاقات واصطفافات جديدة. ولم يعد الإعلام يوجه سهامه نحو السلطة الحاكمة وحدها، بل نحو الأحزاب كذلك. فالقضية في مبتدئها دولة ماسكة بمراكز القرار اليوم، وفي منتهاها أحزاب من المفروض أن تكون ممسكة بالقرار غدا. بهذا المعنى، فإن العمل السياسي والعمل الحزبي اليوم ليس شأنا داخليا للأحزاب، بل نقطة في جدول أعمال المجتمع كذلك، أي ورش وطني بامتياز من شأن إنجازه أن يسهل الانتقال الديمقراطي.
إنه ورش كبير لا يعتمد على الخطاب الأخلاقي، بل على مراجعة منظومة القوانين التي تؤطر العمل الحزبي وتؤطر عمل المؤسسات المنتخبة، وترشد عملها.
مادامت «الحزبية» تعطي حقا في «المواطنة الامتيازية»، ومادامت المؤسسات المنتخبة توفر غطاءا ملائما للاغتناء، ومادام العمل السياسي مصدر ارتقاء اجتماعي غير مشروع، واسترزاق ومراكمة للامتيازات والاغتناء، فإن الهيآت الحزبية لن تعرف لا ديمقراطية ولا استقرار.
تأهيل العمل الحزبي والسياسي تنظيميا وسياسيا وقانونيا من أهم شروط إنجاز وإنجاح الانتقال الديمقراطي.
82 مارس 2008
الطيب حمضي

التناوب: الملائكة والشياطين

التناوب التوافقي بدأ التحضير له قبل وقوعه في مارس 1998 بعدة سنوات، حيث كان الملك الراحل الحسن الثاني قد دعا المعارضة إلى تشكيل حكومة أقلية يضمن لها أغلبية بالبرلمان، حتى تنهي ولايتها، وفي نفس الخطاب، كان قد دعا إلى العمل من أجل ثنائية سياسية بالمغرب، أي بروز قطبين سياسيين أو ثلاثة عوض تشتت الخارطة السياسية والحزبية (اليوم حكومة الفاسي حكومة أقلية مدعومة دون ضمانة ولا التزام!!).
خلال مراجعة الدستور لسنة 1996 والتحضير لحكومة التناوب لسنة 1998، كان موقفي الشخصي معارضا لموقف حزبي آنذاك (الاتحاد الاشتراكي)، حيث كنت مع مجموعة من المناضلين، نعتقد وقتها أن الفرصة كانت مواتية لمناقشة إصلاحات دستورية حقيقية تؤسس لانتقال ديمقراطي. ولنتذكر أننا وقتها كنا تحت حكم ملك لم يكن من طبعه وطبيعته تفويض أو القضم من سلطاته بدون تحرك وتململ في موازين القوى. وقتها كنا نظن أن نهاية الحرب الباردة، والظروف الصحية للملك، والأزمة المتفاقمة بالمغرب، عناصر من شأنها دفع الملك إلى القبول بإصلاحات حقيقية. ما وقع أن المعارضة انخرطت في المشروع بدون قيد ولا شرط، معتقدة أن التناوب نفسه سيشكل دافعة قوية لمسلسل الإصلاحات.
اليوم، ربما لا تختلف التقييمات كثيرا بين مختلف الفرقاء، وهذا ليس موضوعي.
التناوب إرادة الحسن الثاني حتى لا يترك لخلفه تركة معقدة عاشها هو لمدة 40 سنة، وأراده لتنقية الأجواء. أمام استبدال الحكم بشكل طبيعي ولحسم النزاع حول المشروعية. وهذا ما حصل. والتناوب أرادته أحزاب المعارضة كخطوة ستمكنها من تحقيق مكتسبات وإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية ملموسة تسمح لها بتقوية عودها وارتباطها بالجماهير، ومن ثمة ململة ميزان القوى لصالحها، فهذه الإصلاحات الصغرى ستؤدي بالضرورة إلى الإصلاحات الكبرى مع الملك أو مع الشعب، أي بتوافق مع الملك أو بضغط من جانب الشعب الذي سيرتبط أكثر فأكثر بهذه الأحزاب بعدما يلمس تغيرا في حياته مع حكم المعارضة. وهذا ما لم يحصل.
هناك الآن تناوبان: الذي أراده الملك والذي أرادته أحزاب المعارضة. ونعت بالتوافقي، لأنه ليس نتيجة لصناديق الاقتراع والتحالفات الطبيعية، بل نتيجة لإرادة الملك أحسن تدبيرها راحل آخر هو إدريس البصري.
أما الجانب الثالث من التناوب، فهي الدروس التي استخلصناها من التناوب. شخصيا إذا عادت الأحداث عشر سنوات للوراء سأكون ضمن الذين يدعون للقبول به. ليس لكونه أنجز إصلاحات أو غير مجرى تاريخ المغرب، ولكن ببساطة، لأنه مكننا كفاعلين سياسيين من إعادة النظر في المسلمات التي كنا نؤمن بها.
أولا، اكتشفنا أنه ليس كل من هو معارض لنظام غير ديمقراطي فهو ديمقراطي بالضرورة، واكتشفنا أنه ليس كل من يناضل من أجل الديمقراطية هو ديمقراطي، أو أنه سيظل كذلك وهو في كرسي المسؤولية.
واكشتفنا كم من الفاشسيت -نعم الفاشيون- كانوا بيننا في جلابيب ديمقراطية. راجعوا صحف المعارضة، حين انتقلت إلى الحكم، كيف كتبت عن المضايقين لها، وكيف كممت أفواه الصحافة.
واكتشفنا كم من السهل أن يكون الإنسان ديمقراطيا ونزيها حين لا يكون هناك ما يمكن أن «يهرف عليه». واكتشفنا أن من ننعتهم باليمين والأحزاب الإدارية كانوا في الكثير من الأحيان أكثر تفتحا وتفهما وتحليا بالروح الرياضية من الأحزاب الوطنية والديمقراطية.
واكتشفنا أن أسهل شيء في ما يخص قضايا التدبير هو أن يكون الإنسان معارضا وأن أصعب شيء هو أن يتحمل المسؤولية. وهذا سمح للأحزاب وأطرها من عقلنة خطابها وشعاراتها.
هذه بعض من دروس التناوب، وهي ليست بسيطة، وهذه الدروس والاكتشافات هي التي حركت البرك الآسنة داخل الأحزاب. بهذا المعنى، التناوب أدى وظيفة أساسية في إنضاج العمل الحزبي والسياسي بالمغرب وجعله أكثر حرفية وترشيدا. هذه ليست دروس إحباط، بل العكس دروس إعادة البناء. دروس جعلتنا نكتشف حقيقة أنفسنا، ونرى الأمور نسبية ونراجع الحقائق المطلقة التي كنا نؤمن بها، ونقدر من يخالفنا، ونحترم اختياراته، ونكتشف أن العالم ليس ملائكة، هم نحن، وشياطين، هم الآخرون.
21 مارس 2008
الطيب حمضي

الجبهة ضد الإرهاب

يوم أخبرني صديق بالهاتف أنه تم اعتقال قياديين بحزب «البديل الحضاري» و«الحركة من أجل الأمة»، على ذمة قضية شبكة إرهابية سيطلق عليها في ما بعد «شبكة بلعيرج»، قلت له في تعليق أولي: أتمنى من كل قلبي أن تكون وزارة الداخلية مخطئة. واليوم أقول، كذلك، أتمنى ألا تكون مخطئة إلى هذا الحد!!
أتمنى أن تكون مخطئة، لأنه إذا تبث، كما يدعي وزير الداخلية، أن هناك شبكة إرهابية استطاعت أن تجد لها موطئ قدم داخل قيادات سياسية شرعية وفي أحزاب مختلفة، بل إن من استراتيجية هذه الشبكة خلق حركات وأحزاب سياسية للتغطية، إذا ثبت ذلك، فهذه كارثة. كارثة أمنية تنتظر هذه البلاد.
فالأمر لم يعد يتعلق بمجموعات هنا وهناك، تجتمع وتقرر تنفيذ عمليات إرهابية ضد أهداف محددة، وتنتهي بالتالي مهمتها، في انتظار مجموعات أخرى لأهداف جديدة. كارثة، لأن ذلك معناه أننا أمام شبكات لها مخططات إستراتيجية تمتد على سنوات، بل عقود من زمن. ومثل هذه الاستراتيجيات لا تجيدها ولا تتوفر على الإمكانيات «النظرية» والمادية والبشرية لها، إلا أقوى أجهزة الاستخبارات العالمية، فبالأحرى جماعات إرهابية !! كارثة، لأن معنى ذلك أن عقودا من الزمن الصعب تنتظر بلادنا إذا صحت الطريقة التي قدمت بها شبكة بلعيرج للرأي العام.
من خلال تتبعي لمثل هاته الحركات والمجموعات، على المستوى المغربي والإسلامي والدولي، ومن خلال ما هو متوفر للمتتبع الدقيق للوضعية ببلادنا، أستطيع أن أجادل في صحة وصدقية الطابع السياسي (الهوليودي) الذي أعطي لشبكة بلعيرج من خلال القيادات السياسية المعتقلة ضمنها.
إن أقصى ما يمكن أن تدلي به سلطة الاتهام، هو وجود علاقات بين بعض القياديين الإسلاميين وبلعيرج في الماضي، لا علاقة لها لا بتأسيس أحزاب سياسية ولا بإعطاء غطاء سياسي لعمل إرهابي. وأن شبكة بلعيرج تتكون من مجموعات مثل ما سبقها وما سيتبعها من مجموعات متطرفة، قد تكون اختارت الإرهاب وسيلة عمل. أؤكد على «قد»، لأنه ليس من حقي أن أدين أحدا قبل الاطلاع على حتى ما هو متهم به، وعلى ما سيدلي به من أقوال للدفاع عن نفسه، فبالأحرى حكم العدالة.
من جهة أخرى، أتمنى أن لا تكون وزارة الداخلية خاطئة إلى هذه الدرجة، لأنه إذا تبين أن الأمر يتعلق فعلا بشبكة إرهابية، ولكن وقع البحث عن أي معطى أو عنصر لإعطاء هذه الشبكة هالة سياسية وارتباطات حزبية لسبب ما أو لغاية ما، وتم تتبيل الحديث عن الشبكة بتوابل حزبية، فإن أولى أوجه تصدع الحرب على الإرهاب التي تخوضها بلادنا لن تتأخر في التجلي.
الحرب على الإرهاب تخوضها بلادنا وليس الأجهزة الأمنية وحدها. نخوضها جميعا، مواطنون وأجهزة. وهذا جوهر وأهم نقط القوة في هذه الحرب. وإذا تذكرنا تفجيرات السنة الماضية، سنفهم دور هذا الترابط بين دور الأجهزة الأمنية ومساعدة وتفهم المواطنين. أما إذا أحس الرأي العام، في أي لحظة من اللحظات، أنه تم «تمريغه في الطحين» من طرف أي كان في موضوع حساس كالحرب على الإرهاب، فستصبح حربا للأجهزة الأمنية ضد الإرهابيين وسط تشكك المواطنين. وستكون تلك ضربة قوية للجبهة ضد الحرب على الإرهاب. لذلك، قلت أتمنى أن لا تكون وزارة الداخلية خاطئة !
نحن أمام معتقلين ورواية لوزارة الداخلية، وأتمنى أن تحترم المساطر وفقا للقانون، وتكون المحاكمة عادلة ضامنة لحقوق المعتقلين، حتى يقول الرأي العام والقضاء كلمتهما. وسندرك وقتها أين كان الخطأ.
14 مارس 2008
الطيب حمضي

تحفيز الديمقراطيين

حفيز الديمقراطيين
هل نحن في حاجة إلى حركة سياسية جديدة؟ أظن أنه أضحى واضحا، اليوم، حتى بالنسبة للذين كانوا يقولون إننا بصدد صنع الانتقال الديمقراطي بسلاسة وأن الأمور على ما يرام، أن العمل السياسي في أزمة. أزمة حقيقية.
انتخابات 2007 وما رافقها وما تبعها، ونسبة المشاركة المتدنية، وطبيعة العملية الانتخابية، والأسماء الفائزة...، كلها مؤشرات على هذه الأزمة العميقة.
اليوم، لا أريد الحديث أو تقييم الأمور بميزان السنوات والتجربة الحالية. دعونا ننظر إلى الأمور بنظرة استراتيجية تتجاوز عناصر اليوم، وتستشرف آفاق المستقبل. ما هي تحديات بلدنا؟ مشكل التنمية والفقر، أوضاع المرأة، التهميش الاجتماعي، المشاركة والخطر الديني؟...
خطر التطرف الديني لا يهم المغرب وحده، بل هو ظاهرة تعم العالم الإسلامي، ومن الصعب أن يتوقع اليوم أي أحد في العالم إلى أي حد قد تصل الظاهرة، وإلى أي مدى زمني ستأخذه: عقد، عقدان، أو قرن من الزمان. أنا لا أتحدث هنا عن حزب العدالة والتنمية أو جماعة العدل والإحسان، فحتى مناضلو هاتين الحركتين، مثلا، لا يمكن أن يتوقعوا كيف ستتطور الظاهرة عبر التاريخ. وقد يكونا من الضامنين لتطور إيجابي نحو دمج ممارسة دينية سياسية متوافقة مع الديمقراطية ومستوعبة لها. كما يمكن أن يكونا، بالرغم عنهما وبحكم التطور الذاتي لحركية التاريخ، يبنيان الأرضية لعصور من الظلام كما بناها غيرهم، من إيديولوجيات غير دينية وديكتاتورية سياسية. لذلك، فالأخذ بيد بلادنا حتى تتجاوز هذا الامتحان بنجاح، هو من أهم تحدياتنا.
المغرب ليس بلدا غنيا، واعتماده على السياحة واستقطاب الاستثمارات الخارجية والتحويلات يجعل من الاستقرار السياسي شرطا ضروريا ودائما للتنمية. أي أن أدنى قلاقل هيكلية من شأنها تدمير مستقبل البلاد. وهذا الاستقرار نفسه يتوقف على استفادة الناس من مسلسل التنمية.
المشكلة التي تطرحها الممارسة الحزبية، اليوم، أنها أصبحت تنفر الناس من العمل الحزبي عوض أن تجلبهم للمشاركة. هناك فئات واسعة من المجتمع، من فاعلين ورجال إعمال وأطر ومواطنين يستشعرون التحديات ومستعدون للعمل يدا في يد لمواجهتها. لكن العمل السياسي كما هو عليه يزرع النفور.
والأخطر أن الأحزاب لم تظهر أي استعداد للتغيير لمسايرة الواقع. بل أضحت متلكئة وتنتظر من الدولة والمخابرات أن تقمع الحركة الإسلامية لضمان الاستقرار وجلب الاستثمار وضمان مقاعد بالمؤسسات بسهولة، في غياب أي منافسة ديمقراطية.
إن الأحزاب، إذا ما أصلحت أحوالها، قادرة على استقطاب مئات الآلاف من المواطنين الحداثيين والديمقراطيين، يمينا ويسارا، لصفوفها ولمعركتها من أجل الديمقراطية والتنمية والحداثة. لكنها لم تفعل وغير مستعدة لذلك. إذا أمكن جمع هاته الطاقات أو تحفيزها، فإن هذه الأحزاب نفسها ستكون مستفيدة، وستستفيد البلاد قبلها وبعدها، بطبيعة الحال.
المؤسسات التقليدية يضايقها، في العادة، الحراك السياسي، كما تضايقها المشاركة، لأن أي تحرك لا يمكن التحكم في مساره كليا، وكل التحركات الكبرى تصنع مجراها بنفسها. لذلك، المغرب، اليوم، في حاجة استراتيجيه لعناصر محفزة، جامعة، مستشرفة للمستقبل، متجاوزة لسلوكيات العملية الحزبية الحالية، وفي حاجة لاستنبات الثقة في العمل من أجل الشأن العام، لأن الأغلبية ليست صامتة، ولكن مترددة، فقط مترددة..
فإذا كانت «حركة لكل الديمقراطيين» مستحضرة لهذه الحاجة الإستراتيجية، أكيد ستكون في صلب التاريخ المغربي. أما إذا كان الأمر يتعلق بجواب مرحلي عن أسئلة ظرفية، فإنها ستكون حركة سياسية مثل غيرها من الحركات التي تظهر وتختفي.
7 mars 2008
الطيب حمضي

كليشيهات الديمقراطيين


هل تشكل مبادرة الهمة ورفاقه «من أجل حركة لكل الديموقراطيين» خطرا على الديموقراطية؟ هل هي تقهقر للوراء وعودة لممارسات الستينيات؟ هل هي نسخة منقحة لأحزاب خلقتها الدولة في بداية الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، من «الجبهة للدفاع عن المؤسسات»، مع رضى اكديرة، والأحرار، مع عصمان، والاتحاد الدستوري، مع المعطي بوعبيد؟ هل هي حركة تهدف الإجابة عن حاجة سياسية ملحة أو مستقبلية، أم فقط تكرار بئيس لتجارب الماضي؟لمناقشة حركة سياسية موضوعيا، لا بد من التخلص من الكليشيهات والأحكام الجاهزة والأساطير وأحكام القيمة السريعة، التي تتدافع لوأد أي حراك سياسي. أكيد أننا لسنا مضطرين لانتظار أن ينهي فؤاد الهمة وزملاؤه مشروعهم حتى نتمكن من الحكم عليه. بل بإمكان الفاعل والمراقب أن يدخل هذا «المشروع» لمختبر التحليل وإعمال أدوات التحليل العلمي، حتى لا تكون النتائج مجرد أحكام للنوايا.أقول هذا، لأانني تتبعت عددا وافيا حول ما كتب عن المبادرة، من تشكيك، وانتقاد، وأحكام جاهزة، ولم أقرأ إلا نادرا بعض القراءات الموضوعية والمتأنية للمبادرة. لا تهمني النتائج التي يصل إليها المحلل العقلاني، المهم هو أن مثل هاته القراءات من شأنها المساعدة على فهم ما يجري فهما صحيحا، وتوقع ما قد يحصل مستقبلا بشكل تقريبي.ومن أهم ما لاحظت على مجمل ما كتب هو إلصاق كليشيهات وأحكام جاهزة بالمبادرة، أولها أن هذه المبادرة هي مجرد تكرار لتجارب قامت بها الدولة على عهد الملك الراحل الحسن الثاني.يبدو لي أنه من الخطأ الفادح المقارنة بين هذه المبادرة وما جرى قبلها. فأوجه الفرق شاسعة، ولا يمكن للمراقب السياسي العادي أن يجد بينهما كل هذا التشابه. هناك اختلافات جوهرية، في التجارب السابقة، كان الملك في مواجهة أحزاب تنازعه مشروعيته وتشكك فيها أو تهدد نظام حكمه. أحزاب لها مشروعية واسعة في الشارع وأي انتخابات نزيهة كانت ستحملها للبرلمان بأغلبيية كبيرة. فكان الملك، تجنبا لمواجهة واقع مؤسساتي يعاكسه، يعمل على خلق حزب سياسي وتكلف الدولة بتزوير الانتخابات لصالح المولود الجديد، الذي يحصل على الأغلبية داخل المؤسسة التشريعية. هكذا، يضمن الملك عدة سنوات من الهدوء البرلماني ومن النظام البرلماني الصوري.لم يكن يهم الدولة، آنذاك، أن يكون للحزب الذي خلقته أي امتداد في الشارع، بل، على العكس من ذلك، كان مطلوبا أن يكون حزبا ذا أغلبية برلمانية وبدون أي امتداد جماهيري. المهم، أن لا تكون للأحزاب المشاكسة أغلبية داخل المؤسسات.اليوم، هل تواجه الملكية أحزابا تهددها أو تشكك فيها أو في نظام حكمها؟ بعد انتخابات 2007، أصبح واضحا أنه حتى الإسلاميين لا يمكن أن يشكلوا خطرا على المؤسسات باكتساحها. (وهذا لا يعني أن المستوى الجماهيري له نفس الوتيرة). إذن، الملكية، اليوم، ليست إطلاقا في نفس الوضعية السايقة، ثم حتى وإن خلقت حزبا، فهل بإمكانها تزوير الانتخابات لصالح حزبها؟ في السابق، لم تكن الدولة منشغلة إلا بحشو الصناديق لصالح حزبها، ولم تكن المشكلة تكمن في خلق الأحزاب، بل في تزوير الانتخابات لصالح هذه الأحزاب. فهل يمكن، اليوم، أن نتصور أن تسرق صناديق الاقتراع وتملأ بأصوات لصالح حزب الدولة؟في التجارب السابقة، كانت الأحزاب تخلق بقرار من الدولة، وهي التي تضع لها قوانينها وأدبياتها وإيديولوجيتها وزعامتها وقيادتها. ولم يكن ممكنا أن يكون للحزب أي تصور أو قرار خارج ما يقال لزعيم الحزب/ ممثل الدولة داخل الحزب، لأن أي تداول أو ديمقراطية داخل ذلك الحزب من شأنها أن تهدد الغاية والأهداف التي من أجلها خلق الحزب أصلا.واليوم، بعد أن أصبحت كل الأحزاب، حتى الجامدة منها، تعرف نقاشا وانتفاضات وتغيرات، فهل يمكن تصور خلق حزب كركوزة في يد الدولة، تعين فيه من تشاء وتقرر ما تشاء، ولا يثير ذلك أي نقاش؟ سيكون من المزاح قبول مثل هذه الأحكام، اليوم، أمام الغليان الذي تعرفه الحياة الحزبية، و حتى مع بروفيل، الموقعين على النداء أو بعضهم على الأقل.في التجارب السابقة، كانت الأحزاب تخلق في غرف مظلمة صبيحة الانتخابات، ونحن، اليوم، أمام مبادرة مفتوحة للنقاش أمام الملأ وأمام الجميع، وأمام تحركات ومشاريع تحركات داخل جهات المغرب ومع فاعليه وأقطابه.يقول الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، اليوم، أن برامجهما هي ما يقوله الملك وما يقوم به. والعدالة والتنمية تقهقر انتخابيا مقارنة مع التجربة السابقة ( تقهقر انتخابي وليس جماهيري بفضل التقنيات الانتخابية) ولم يعد هذا الحزب الإسلامي بعبعا مؤسساتيا، فلماذا يضطر الملك، إذن، لخلق حزب وتزور الدولة الانتخابات لصالحه؟ هل الدولة في حاجة فعلا لهذه الفانتازيا؟أكاد أجزم أنه، على المستوى المؤسساتي، ليست هناك أي حاجة على الإطلاق لأي مبادرة في الوقت الحالي على الأقل. لكن، إذا انتبهنا للواقع السياسي للبلاد والواقع الجماهيري، يمكن أن نفهم بسهولة الحاجة الملحة لحركة سياسية جديدة. هل هي الحركة التي يقف وراءها الهمة؟ هذا السؤال يمكن مناقشته.و في الأخير، أنبه إلى أنني قدمت ملاحظات للاستئناس بها عند مناقشة المبادرة الحالية. ويهمني أن أؤكد أنها قراءة من خارج هذه المبادرة. وستكون لنا عودة للحديث عن المبادرة في حد ذاتها، وهل هي مبادرة تآمرية، أم استجابة لحاجة موضوعية آنية ومستقبلية.
29 fevrier 2006
الطيب حمضي
Publié par Tayeb Hamdi à l'adresse 16:53

أهل‮ ‬اليسار‮

خلال نهاية الأسبوع الفارط، ظهر إلى الوجود حزب يساري جديد خرج من رحم المؤتمر الوطني الاتحادي. وهكذا ''اغتنت'' الساحة السياسية المغربية بأحزاب يسارية ولازالت أخرى تستعد للخروج إلى الوجود. هذه ''الطفرة'' للأسف ليست نتيجة لتشعب الفكر اليساري وانتشاره داخل المجتمع المغربي، ولا نتيجة لقرارات يتخذها مواطنون ومناضلون قريبون من أفكار اليسار دون أن تعجبهم الإطارات الحالية، فقرروا تكوين إطارات جديدة. الهيآت الجديدة التي ظهرت وستظهر هي فقط خروج لمناضلين يساريين من هيآتهم لتأسيس هيآت جديدة، بسبب خلافات سياسية أو تنظيمية في الهيآت الأصلية. فالمؤتمر الوطني الاتحادي مثلا خرج من كنف الاتحاد الاشتراكي والحزب الاشتراكي الذي أسسه الدكتور بوزوبع ورفاقه خرج من رحم المؤتمر الوطني الاتحادي. بينما اختارت الوفاء للديمقراطية التي غادرت الاتحاد الاشتراكي أن تندمج مع حزب يساري قائم لتكوين الحزب الاشتراكي الموحد. خلاصة المشهد أن نفس عدد المناضلين اليساريين ونفس الوجوه تقريبا هي نفسها تتوزع على التنظيمات. وفي كل عملية انشقاق أو فراق أو حتى تأسيس، هناك ضياع ليس فقط للقوة الجماعية، بل ضياع حتى على المستوى الفردي، إذ مع كل عملية شقاق هناك طاقات يسارية تحبط وتفضل الانزواء ومقاطعة العمل الحزبي.
الظاهرة طبيعية ومرضية في نفس الآن. طبيعية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن البلاد تعيش مرحلة انتقال. والانتقال لا يهم المؤسسات السياسية، بل يهم التنظيمات نفسها، حزبية كانت أو نقابية أو جمعوية.
فالأحزاب السياسية التي تساهم في بناء التحول بالبلاد هي نفسها في حاجة إلى تغيير، بل تغييرات عميقة في طرق عملها وتفكيرها وآليات اشتغالها. إذ إن طبيعة المرحلة السابقة التي عاشتها البلاد جعلت من التنظيمات اليسارية تعمل بطرق مركزية مبنية على الزعامة، والثقة المطلقة، والقيادة التاريخية، والاستمرارية، والشبه سرية...، بينما اليوم أضحى العمل الحزبي السليم يتوقف على الوضوح في البرامج، وليس الأفكار فقط، على الشفافية وليس الثقة، على الديمقراطية وليس المركزية، على التداول وليس الاستمرارية.
والظاهرة طبيعية كذلك، لأنها مرحلة اصطفافات جديدة وفرز سيتبعها فرز في العمل الميداني لليسار، لأنه ممزق ومبلقن، ليكون ذلك حافزا على تجميع القوى وتوحيد الجهود مستقبلا.
الظاهرة، من جهة أخرى، مرضية بالنسبة للطاقات والفعاليات التي تبحث عن تكوين إطارات سياسية بحثا عن زعامات وهمية أو بحثا عن تبوؤ كراسي ''القيادات الحزبية'' للحصول على ''النصيب'' من كعكة العمل السياسي: مقاعد برلمانية، استوزار... وهي مرضية بالنسبة لمن يريد كذلك خلق إطارات سياسية فقط للتشويش على إطارات أخرى. ماعدا ذلك، فالظاهرة طبيعية وإن كانت سلبية.
اليسار لا هو ديانة ولا طائفة ولا نظام سياسي معصوم من الخطأ أو الضعف. اليسار قيم اجتماعية وإنسانية قبل كل شيء، يحملها ويدافع عنها أفراد، لا تقاس درجة ''يساريتهم'' بمدى ''طهارتهم'' في الدفاع عن الفكر اليساري، بل بمدى جعل هذه القيم النبيلة في خدمة الناس. ولذلك، فإن عائلة اليسار تتسع لكل المواطنين الذين يحملون تلك القيم أو يؤمنون بها. فهم أقرب إلى بعضهم البعض من التوجهات السياسية الأخرى. يبقى على التنظيمات اليسارية أن تمارس فقط الديمقراطية داخلها، وسيكون الإشكال محلولا عن طريق ذوبان أحزاب في أخرى أو اندماج أو تحالف أو جبهة... طبعا، ستبقى تنظيمات على هامش هذه العائلة بتوجه متطرف، وهذه كذلك ظاهرة عادية تعرفها كل المجتمعات. سيكون من الصعب الحديث عن انتخابات 2007، ولكن التي تليها يجب أن تكون تتويجا لمرحلة التحول بالبلاد ومرحلة تتويج لإعادة بناء اليسار في المغرب (وكذا اليمين والوسط). ولأجل ذلك، فعلى اليسار المغربي المتواجد بالحكومة أن يدقق اختياراته ويختار القطب الذي يريد ممارسة السياسة من خلاله بشفافية ووضوح سياسي وإيديولوجي. وعلى اليسار المغربي خارج الحكومة أن يدقق هو الآخر في تحالفاته وفي التمييز بين حلفائه وحلفائه المحتملين وخصومه. وعلى مكونات اليسار، وهي تعمل اليوم في الظروف الحالية وبالطرق الحالية، أن تترك لنفسها هامشا ولو صغيرا قد يكون نقطة التقاء العائلة اليسارية دفاعا عن قيم اليسار ودفاعا عن الوطن والمواطنين
.

الحزب الوحيد

للأرقام معانيها الخاصة، وفلسفتها وخلفياتها. واليوم أتوقف عند الرقم 10٪ الذي كانت تطالب به ثلاث أحزاب بالبرلمان كعتبة لا يمكن لمن يحصل على أقل منها أن يحصل على دعم الدولة المالي.
دعونا مع الأرقام أولا. ولنعد لاحقا لفلسفة الأرقام ومعانيها وخلفياتها.
حين كنت أتابع التصريحات الصحافية والمناقشات و"الفرعنة" المصاحبة لكل ذلك، كنت أخالُ الأمر صادرا عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي الأمريكيين اللذين يتقاسمان أصوات الناخبين الأمريكيين. ويكفي الرجوع إلى نتائج الانتخابات الأخيرة، حتى لا نعود إلا للأخيرة، ليلاحظ المراقب أن حزبين على الأقل من بين الثلاثة (الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية) حصلا بالكاد على عدد من أصوات الناخبين يقارب هذه النسبة المطلوبة!! باستثناء طبعا العدالة والتنمية الذي حصل على ما دون قوته الحقيقية بسبب التسوية التي أبرمتها قيادة هذا الحزب مع الدولة بعدم الترشح في نصف الدوائر بالمغرب. من حيث لغة الأرقام، من الممكن جدا أن لا تحصل هذه الأحزاب مستقبلا على نسبة الـ 10٪. وليتذكر "الديمقراطيون جدا" بهذه البلاد أن الاشتراكيين بفرنسا لم يستطيعوا المرور للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بل جاءوا وراء العنصري "لوبين" LEPEN واضطر الاشتراكيون للتصويت على غريمهم المرشح شيراك لئلا يصبح رئيس فرنسا هو لوبين!!
لذلك، فإن الأرقام ماكرة. وهذا الاستعلاء قد يؤدى ثمنه غاليا من حيث يوم تكون الممارسة السياسية سليمة لاتقوم خلالها الأحزاب بسرقة المرشحين من بعضها البعض، ولا تقوم السلطة "بنصح" المرشحين المستقلين بالترشح مع هذا الحزب (...) أو ذاك!!
الأحزاب هي مؤسسات لتأطير المواطنين ولتمثيلهم وممارسة السلطة لتنفيذ البرامج الانتخابية التي صادق عليها الناخبون. وبهذا المعنى، فإن المنطق يقضي بتشجيع هذه المؤسسات بالإمكانات الضرورية للقيام بمهامها الدستورية.
تحديد عتبة للحصول على الدعم مسألة قد تكون مقبولة ومعقولة إذا كان الهدف منها هو فرز الأحزاب التي تتواجد فعلا وتقوم بعملها من تلك التي تؤسس بقرارات شخصية ويختزلها رئيسها في ورقة "زيارة بجيبه". فهل مثلا حزب يحصل على 8٪ من أصوات الناخبين هو حزب ميت؟ أو 6٪؟ أو 4٪؟ !!
لماذا تخاف الأحزاب الثلاثة من أن تحصل أحزاب أخرى على حصتها من الدعم الحكومي؟ لماذا تريد محاربتها وتعجيزها من خلال منع الدعم المالي عنها وتريد هي الاستئثار بـ "الميزانيات" كلها؟ هذه الأحزاب الكبيرة جدا والعظيمة جدا والتي تضم بين صفوفها عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف (حسب زعمها!) من المنخرطين، أليست في غنى أصلا عن هذا الدعم الذي يقتطع من أموال الشعب؟ ألا تحصل على انخراطات ومساهمات مناضليها والعاطفين عليها وهم بمئات الآلاف (...)؟
إني أفهم جيدا دواعي حزب العدالة والتنمية. فهو حزب من مصلحته أن تغيب كل المكونات الأخرى وأن لا يبقى لها حظ في الوجود (وخصوصا أحزاب ناشئة التي قد تنافسها في الخلفية الدينية)،و يسهل عليه الاستفراد بحزب أو حزبين وهزمهما هزيمة نكراء. و فرض أمر واقع ..
لكن أحزابا تطالب بالديمقراطية، وتؤمن بالتداول، والرأي الآخر، والاختلاف، ونسبية الحقيقة،... من الصعب أن تقوم في نفس الوقت بتشريع وسن قوانين الهدف منها خنق كل منافس محتمل خنقا ماليا أو قانونيا. فلسفة الأمر بكل بساطة هي التشريع لمنطق الحزب الوحيد، دون التنصيص على ذلك. أما القطبية والتكتل، فيخلقهما الوضوح في البرامج واحترام هذه البرامج وليس محاولة وأد المنافسين.
منذ أول دستور، قطع المغرب مع فكرة الحزب الوحيد والحمد لله أن الذين صاغوا الدساتير أو من أوحوا بها من الخارج ليسوا هم "أحزاب" على شاكلة زعماء الـ 10٪!!
الطيب حمضي

أنفلونزا الطيور

بعد الحكم الصادر على "لوجورنال" والأحكام الصادرة قبل ذلك على "تيل كيل" و"الأيام"، قد يضحى من قبيل المغامرة أن يكتب إنسان في الصحافة إلا إذا كان رصيده يتعدى بضعة ملايير. ومثل هؤلاء لا وقت لهم للكتابة! هذا معناه أننا أمام مسلسل لخنق الصحافة من خلال تخريب المؤسسات الصحافية. مهما تكن المبررات، فإن ما يقع اليوم خطير وليس لنهايته إلا باب مسدود ستؤدي البلاد وحدها ثمن ذلك.
هل هذا هو السبب الذي دفعني هذا الأسبوع إلى الكتابة عن أنفلونزا الطيور؟ طبعا ... لا!
الكتابة عن أنفلونزا الطيور اليوم، وعلى الأصح خلال الأسابيع و الأشهر المقبلة، هي أخطر من الكتابة عن أي موضوع سياسي مهما كانت حساسيته. وهذا بالذات ما دفعني إلى الكتابة عنه اليوم.
سنتحدث عن المرض وعن دور الصحافة والصحافيين ومسؤولياتهم، وما أخطرها، في مواكبة ما قبل الوباء أو خلاله إذا حصل لا قدر الله.
لنذكر بداية بأهم المعطيات عن المرض. وقبل دلك أريد التأكيد بشدة على أهمية الاستمرار في أكل لحوم الدجاج بشكل طبيعي وبدون أدنى خوف فالمرض ينتقل من خلال معايشة الطيور المريضة وليس أكل لحم الطيور ، و ادا ما وصل الفيروس للطيور بشكل وبائي، أصلا لن تجدوا لحوما بيضاء بالأسواق، حيث سيطال الإعدام الإجباري الطيور المريضة وكل الطيور التي من المحتمل أن يصلها الفيروس. أما اليوم لنستمر جميعا في استهلاك هده اللحوم بكل طمأنينة و دون إصابة قطاع اقتصادي كبير بالخسارات الفادحة ظلما بسبب جهلنا او تجاهلانا للمعطيات العلمية خول المرض. وفي الأخير الشعب هو الذي يؤدي الفاتورة من خلال البطالة وفقدان مصدر بروتينات في متناول الناس و تأدية فاتورة اللحوم الحمراء والسمك غاليا بسبب هلع واحتياطات لا تحمي نن شيء.
أنفلونزا الطيور، سببه نوع من فيروسات الأنفلونزا من فصيلة H5N1، وهو مرض يصيب الطيور ظهر في آسيا وأخذ اليوم في الانتشار عبر العالم خصوصا بواسطة الطيور المهاجرة.
خطورة هذا الفيروس الحيواني أن له القدرة على الانتقال إلى الإنسان. وهذا ما حصل فعلا في عدد من البلدان التي أصاب الفيروس طيورها. لكن ليست هنا خطورة المشكل. فانتقال الفيروس من الطيور إلى البشر لا يتم إلا إذا كان هناك احتكاك مباشر وكثيف بين الإنسان والطيور المريضة. وهذه مشكلة يمكن القضاء عليها. لكن الخطورة الكبرى التي يتخوف منها العالم كله هي أن يتمكن هذا الفيروس "الحيواني" من التحول وتصبح له القدرة على الانتقال من إنسان إلى إنسان. في هذه الحالة، فإن المرض سيتحول إلى وباء عالمي. هذا معناه أننا لحد الساعة لا نعرف بالضبط الفيروس الذي سيكون سببا في الوباء، لأن هذا التحول الفيروسي لم يحصل بعد. ولأننا لا نعرف الفيروس بالضبط، فإن عملية صنع لقاحات غير ممكنة اليوم. حين ستكتشف أولى الحالات ويتم التعرف على الفيروس يلزم من 4 إلى 6 شهور لصنع اللقاح، وشهورا عدة أخرى لصنع العدد الكافي منها لكل البشر! في هذا الوقت سيكون المرض قد حصد أرواح الملايين وأربك الحياة العامة والاقتصاد في العالم. هناك دراسات آخرها أسترالية تتوقع وفاة ما بين حوالي 7 ملايين شخص (في أحسن التصورات) و140 مليون في أسوئها. لكن المنظمة العالمية للصحة، وهي الأدرى بالموضوع، تتحدث عن تقديرات بين 2 مليون و7 مليون ونصف. انعدام القدرة على الضبط راجع لكوننا لا نعرف بالضبط حتى الآن كيف سيكون الفيروس "المهجن"؟ ماهي قدرته على الانتقال؟ وماهي خطورته بالضبط؟ وهما سؤالان لن تتم الإجابة عنهما إلا بعد انطلاق الوباء.
أليس ممكنا تجنب الوباء؟
المنظمة العالمية للصحة تتأهب لكافة الاحتمالات. كلما انتشرت أنفلونزا الطيور، وانتقل الفيروس إلى الإنسان، زادت احتمالات لقاء الفيروس الحيواني مع فيروس الأنفلونزا البشرية. وبالتالي، الاختلاط الجيني بينهما واكتساب الفيروس الحيواني القدرة على الانتشار بين البشر.
حتى وإن نجحت البشرية في وقف الخطر هذه المرة، فإن أصنافا أخرى ستهددنا في السنوات المقبلة.
خطوط الدفاع ضد المرض هي محاولة القضاء عليه في مرحلة الطيور، أي مراقبة ورصد أي إصابة بين الطيور وإعدامها كلها وعزل المناطق المصابة، وهو ما يتم اليوم عبر العالم.
الخط الثاني وهو ما ستجربه البشرية لأول مرة، وهو محاولة محاصرة المرض والفيروس إذا تم تحوله من خلال استنفار عالمي لعزل التجمعات البشرية المصابة ومعالجتها بـ "التامفلو"، وهي وسيلة فقط لتأخير انتشار المرض حتى تتمكن الإنسانية من إنتاج اللقاحات الضرورية للتحصين ضد الفيروس.
خط الدفاع الثالث كذلك وهو علاج "التامفلو" الذي يمكن أن يعطي نتائج إيجابية إذا استعمل في 48 ساعة بعد الإصابة.
خط الدفاع الحقيقي هوالتلقيح. لكن للأسف، اللقاحات لن يتم تصنيعها إلا أشهرا (من 4 إلى 6) بعد ظهور الوباء. وإنتاج كميات كافية من اللقاحات يحتاج إلى أشهر أخرى.
الخبراء اليوم هم بصدد تصنيع لقاحات افتراضية، إذا وافقت الفيروس "المهجن" سنربح نصف المدة. كما أن خبراء آخرين يشتغلون على كيفية إنتاج أكبر كمية من اللقاحات في أوجز وقت. لكن إذا ظهر الوباء، وفي انتظار تلقيح الناس جميعا، ستتخذ إجراءات أخرى، كمنع التجمعات وغيرها، لحصر الوباء والمرض.
مخلفات المرض والإجراءات ستؤثر على البشرية جمعاء. وهنا دور الصحافة من اليوم. نحن بصدد الحديث عن مرض قد يؤدي بحياة ملايين الناس وقد لا يكون بهذه الخطورة، لكننا نتهيأ دائما للأسوأ. لذلك، قلت في البداية إن مسؤولية الصحافيين اليوم خطيرة. فهم اليوم الوسيط الأساسي بين المعطيات العلمية والطبية والجمهور. بحيث إذا تابع الصحافيون الأمور بدقة ومعرفة وروية وعالجوها بنفس روح المسؤولية سيساهمون في محاصرة المرض وإنقاذ حياة ملايين الناس وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار. أما إذا تمت معالجة الأمور بمنطق الإثارة والترويع والتخويف، أو على العكس تجاهل المرض، فإن الفيروس سيجد له شريكا عزيزا يساعده على الفتك بأرواح الناس. وهذا الشريك هو الهلع أو الجهل، وهما معا يؤديان إلى عدم احترام شروط الوقاية والسلامة لمحاصرة المرض قبل ظهوره أو الحد من آثاره إن ظهر.
الطيب حمضي

الأبارتايد الجديد‮

قبل سنوات، كان الصديق محمد يجول بنا بسيارته ببريتوريا وجوهانسبورغ بجنوب إفريقيا. ولأنه مستقر هناك ويعرف خبايا البلاد، لم يكن يغامر بنا للدخول إلى مناطق الفقر بجوهانسبورغ، وينصحنا كلما صعدنا لسيارته بإغلاق نوافذها وأبوابها من الداخل، وبعدم الابتعاد عن المناطق الآمنة، للحفاظ على حياتنا وأمننا. فالجرائم هناك ترتكب كل لحظة: (أذكِّر بأن جنوب إفريقيا دولة كبيرة ومتقدمة وبنياتها التحتية والاقتصادية شامخة على عكس ما يعتقده الكثير منا). انتهى نظام الأبارتايد (APARTHEID) منذ أربعة عشر سنة بعد أن استمر زهاء نصف قرن (من 1948 إلى 1991). لكن مخلفاته لازالت قائمة: سكان يعيشون في بحبوحة، وهم البيض أو الأفريكانرز الذين جاءوا من أوربا -وهولندا خصوصا- وآخرون (السود) يعيشون الفقر في مختلف مستوياته وأبشعها.
سنة 1948،طبقت حكومة جنوب إفريقيا سياسة اسمها: الأبارتايد. وهي تعني باللغة الأفريقانية: أبقه بعيدا. ومفاد تلك السياسة أن من مصلحة (!) المجموعات أن تنمو (!) نموها الخاص دون اختلاط مع المجموعات الأخرى!! الأبارتايد وزعت المجتمع الجنوب إفريقي إلى مجموعتين، واحدة لها كل الثروات والإمكانات والسلط، وأخرى لا سلطة لها ولا صوت لها ولا حقوق لها! هذا الفصل القانوني والاجتماعي تمت ترجمته ماديا من خلال فصل الأماكن والمؤسسات وحراسة أماكن البيض وثرواتهم بقوة الحديد والنار.
لماذا الحديث عن الأبارتايد الآن؟ نحن نعيش الآن المظاهر الأولى لنظام أبارتايد عالمي جديد. وبسبب موقع بلادنا بين عالمين: أوربي متقدم وإفريقي فقير، نحن شهود ومتابعون لنقل حي لمشاهد تأثيث نظام أبارتايد يقيمه العالم المتقدم (أوربا في حالتنا) لمنع وصول قادمين (مهاجرين) من عالم فقير (إفريقيا). نفس المظاهر تعيشها أمريكا الشمالية مع دول أمريكا اللاتينية، بل حتى الآسيوية. ولعل أقواها ما تعرفه الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.
أوربا والولايات المتحدة سنت قوانين متشددة للحد من الهجرة، ولم تكفِ تلك القوانين، فلجأت إلى وضع حدود وحواجز مادية: أسوار، أسلاك شائكة، وكلاب مدربة، كاميرات مراقبة...
نحن نعيش زمن العولمة: حرية تنقل السلع والخدمات والرساميل... حرية الحركة لكل شيء إلا ''شيئا'' واحدا لا حق له في التنقل. وهذا ''الشيء'' الذي نسي القائمون على العولمة تسهيل حركته ومروره هو الإنسان! في زمن العولمة، لا يحق لإنسان أن يدخل بلدا جارا مهما فعل، لا بطريقة شرعية، ولا حتى غير شرعية! أليس من حق الدول المتقدمة أن ''تنظم'' استقبال المهاجرين إلى بلدانها وحماية أنظمتها الاجتماعية؟ وهل ستقبل الدول المتقدمة استقبال إفريقيا كلها ذات يوم؟ سيكون من العبث تجاهل السؤال، رغم أن العديد من الباحثين يؤكدون أن الهجرة لا تؤثر لا على مستوى البطالة ولا على الخدمات الاجتماعية بالدول المستقبلة إلا بشكل طفيف وغير محسوس...
من جهة أخرى، أليس من حق مواطنين يعيشون الفقر والجوع في بلدان أنظمتها فاسدة، ومشغولة بالحروب والحروب الأهلية والسرقة، أن يهاجروا إلى أي بلد قد يضمنون فيه بعض الخبز والكرامة والاستقرار، مقابل أي عمل يقومون به؟.
سؤال ثالث. هل من المعقول أن تستمر الدول الفقيرة على ما هي عليه ولا تنجح إلا في إجبار مواطنيها على الرحيل نحو دول أخرى؟ ألم يحن الوقت بعد لتوضع على أجندة المجتمع الدولي مشاكل الفقر والتخلف والحكامة نفسها في إفريقيا لمساعدة أبناء القارة على التخلص من هذه الأنظمة والحروب والفقر؟ الهجرة لأسباب اقتصادية واجتماعية حق مشروع، مضمون بفضل حق آخر هو الحق في الحياة. وممارسة هذا الحق لن توقفها لا القوانين ولا الحواجز ولا الأسلاك.
أوربا تسن قوانين وحواجز للإبقاء على الأفارقة بعيدا عنها، أي سياسة الأبارتايد. هذه السياسة ستتفاقم كلما اتسعت الهوة بين الدول الغنية والفقيرة. وكلما ازدادت القوانين شدة، ازدادت المآسي على الحدود. فهل نقبل في المغرب أن نكون مشاركين في حماية نظام فصل عالمي جديد وحقير بقوة الرصاص؟!
الطيب حمضي

إدريس‮ ‬البصري‮: ‬الرأي‮ ‬العام‮ ‬كرهينة

عاد قبل أسابيع السيد إدريس البصري، وزير الداخلية المغربي الأسبق، لإعطاء الاستجوابات الصحافية لعدد من المنابر، بعد أن كان قرر من تلقاء ذاته الركون إلى الصمت بعد حصوله على جواز السفر.
تابعت تصريحاته باهتمام، مثل كافة المهتمين بالشأن السياسي ببلادنا، باعتبارها صادرة عن رجل بقي على رأس وزارة الداخلية ثلاثة عقود من الزمن، وكان اليد اليمنى للراحل الحسن الثاني و''المنفذ الأمين'' لسياسة العهد القديم بل أحد أهم مهندسيها. هذه التصريحات كلها على منوال واحد، تتطرق لنفس القضايا تقريبا وفيها نفس المقاربة ويحكمها نفس المنطق وتصدر نفس الأحكام :حقوق إدريس البصري في الجواز ومستحقات الأجرة ، قضية الصحراء، أحداث 16 ماي، الانتخابات بالمغرب، حقوق الإنسان، محيط الملك، العلاقة بالحسن الثاني ومحمد السادس والنخبة السياسية المغربية). هذه عموما هي المواضيع التي يتناولها إدريس البصري في كل خرجاته الإعلامية مع توظيف توقيت الخرجات، ومكانها، والصور المصاحبة لها.

خرجات إعلامية مخدومة...
إدريس البصري رجل عايش دقائق السياسة المغربية لعقود من الزمن واضطلع على تفاصيلها وساهم في صنع جزء كبير منها، كما اضطلع بحكم الوزارة التي تولى أمورها على دقائق الحياة الداخلية للأحزاب المغربية. وهو بهذا المعنى خزان كبير لأسرار المغرب الداخلية والخارجية والدبلوماسية. ومن جهة أخرى، فإن الرجل كان صانعا للقرارات وللأحداث ومحركا أساسيا لدواليب السياسة بالبلاد وقريبا جدا من الملك الراحل. وهو ـ أو على الأقل هذا رأيي الشخصي ـ من أكفء الوزراء الذين عرفهم المغرب. وليس معنى ذلك أني اعتبر ما فعل إيجابيا. على العكس تماما، إني أكاد أحمله المسؤولية في كل الجرائم التي ارتكبت في حق العباد والبلاد خلال عهده. ومنها ما يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية. ولكن مع ذلك، فإن هذا لا يمنع من الاعتراف بكفاءته وخبرته وذكائه في تصريف الأمور كما كان يراها ويُطلب منه القيام بها.
رجل بهذا الوزن خرج إلى فرنسا بعد أن أقيل من مهامه وتعرض لبعض المضايقات دون أن يتحدث عنها أحد. استقر بفرنسا ولم ينطق بكلمة، إلى أن تم رفض تجديد جواز سفره واعتقال العفورة والسليماني. وهما من أهم المقربين إليه وحاشيته. حين أحس إدريس البصري أنه أضحى مستهدفا، قرر الخروج عن صمته وإعطاء بعض التصريحات. الرجل إذن لم يقرر من تلقاء ذاته أن يكتب عن تجربته، أو يتحدث عن ماضيه، أو يعطي بعض التفاصيل والحقائق عن فترة توليه المسؤولية كما يفعل غيره بالبلدان الديمقراطية، أو غيرها. تصريحاته لا هي بشهادة ولاهي تنوير للرأي العام بقدر ما هي سلاح للدفاع عن الذات ومهاجمة خصومه. لذلك فإن تصريحاته كلها منمطة، وتهديد بالكشف عن المستور والإيحاء بالقدرة على الإيذاء، وتلميع الذات...
بعد تدخل الملك محمد السادس واستعادة البصري لجواز سفره، أصيب إدريس البصري ''بإمساك'' صحافي وتوارى خلف الأنظار. ثم ما لبث أن عاد مؤخرا للصفحات الأولى بعد أن أخذت محاكمة العفورة والسليماني منحى غير ما كان ينتظره البصري .وإن كنت شخصيا أكاد أجزم أن هذه القضية ستنتهي إلى لا شيء!! ليس بسبب براءة المتهمين، ولكن لأن كل ملفات الفساد ببلادنا لا تفتح إلا لتصفية الحسابات وتغلق قبل أن تصل حيث لا يجب أن تصل

إدريس البصري وحقوق الإنسان
حين يتعلق الأمر بشخصه، فإن إدريس البصري يتسلح بالقوانين وبالحقوق كما هي منصوص عليها، بل كما هي متعارف عليها دوليا: حقه في الأجر الذي حُرِم منه وحقه في تجديد جواز سفره وهو في باريس. حتى عندما تم إخراج المذكرة التي كان هو الذي وقعها أيام استوزاره والتي تمنع تجديد الجوازات لمن هم في خانته إلا داخل المغرب (لأسباب أمنية/ قمعية)، حتى وهو في مواجهة مذكرته، دفع إدريس البصري -عن حق- بحقه في تجديد جوازه، مذكرا بسمو القوانين على المذكرات، بل بسمو القوانين الدولية وكونية حقوق الإنسان على القوانين الداخلية نفسها ! في الدفاع عن نفسه، يتشبث إدريس البصري بحقوق الإنسان وبكونيتها وبمفاهيم دولة الحق والقانون.
لكن حين ينتقل إدريس البصري إلى الحديث عن الانتهاكات المختلفة والجسيمة لحقوق الإنسان في عهده وتحت إمرته، فإنه يفسر ذلك بشيء بسيط، خفيف، كان ضروريا في مواجهة أناس يريدون قلب النظام، أو ضروريا لأن المغرب كان في فترة بناء المؤسسات!! وكأن المؤسسات لا تبنى إلا إذا اغتيل مئات المغاربة، وسجن الآلاف وقطعت الأرزاق والأعناق!! حين يتعلق الأمر بالحديث عن مسؤولية البصري في ما جرى ببلادنا من انتهاكات، فإنه يدوس حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا ويدوس الدستور ويدوس القوانين المغربية. فقط لأن إدريس البصري يفسر ذلك ثانويا أمام ما كان النظام يريده! وهذا معناه الكيل بمكيالين: أناس يستحقون أن تصان حقوقهم وهم: إدريس البصري وأناس لا حق لهم في التمتع بحقوقهم إلا إذا وافق عليها إدريس البصري ولم تتعارض مع ما يفكر فيه: وهؤلاء هم: كل الشعب المغربي!!
شخصيا، أطالب بأن يتمتع إدريس البصري بكل حقوقه كاملة وغير ناقصة بما في ذلك محاكمة عادلة (قضائية أو رمزية) ليجيب عن الاتهامات الموجهة له في خرق حقوق الإنسان، وتزوير الانتخابات والتغطية على الفساد وغيرها مما كان يشكل سمة أساسية لفترة تحمله المسؤولية.
يكفي مراجعة تصريحاته للوقوف على الازدراء والاحتقار الذي يتحدث به البصري عن ضحايا حقوق الإنسان في عهده. هذا معناه أن إدريس البصري المواطن، الأستاذ الجامعي، المقيم بباريس، المضطهد من طرف خصومه، البعيد عن المسؤولية، هذا البصري لازال يعتبر لحد اليوم أن ما كان يقوم به هو عمل عاد وليس جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان ! كيف يمكن لرجل له مثل هذا التفكير أن ينصب نفسه اليوم خبيرا يعطي النصح في مجال حقوق الإنسان؟ إذا كان هو نفسه غير مقتنع بحقوق الإنسان وبفلسفتها وهو يرى أن هناك من يستحقها كلها ومن يستحق بعضها أو جزءا منها أو لا شيء... أضعف الإيمان ما يمكن النصح به هو أن يراجع صاحب مثل هذه الأفكار مفاهيم حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون كمتعلم لعله يدرك هول الجرائم التي حدثت تحت إمرته وبعدها قد يكون مؤهلا لإعطاء آراء وخبرة أو نصائح في هذا المجال...

قضية الصحراء
أساس المواقف الحالية لإدريس البصري من قضية الصحراء من خلال تصريحاته طبعا هو موقفه الرافض للحل السياسي. وهو موقف يعلله بمنطق سياسي سليم.
لكن هذا الموقف تغير لدى البصري، أو على الأقل لنقل تغيرت أسبابه، ثم في آخر تصريح له مال تماما للمطالبة بالاستفتاء.
في البداية، كان المغرب يتحدث عن حكم ذاتي لمرحلة أولى يتبعها استفتاء بعد خمس سنوات. وكانت المفاوضات تدور حول السلط المخولة للحكم الذاتي والهيئة الناخبة. وهنا، البصري كان هو المفاوض حين كان وزيرا. رفض هذا السيناريو وهو في فرنسا، لاعتبار أن الاستفتاء لن يصب إلا ضد مصلحة المغرب بسبب تجارب الاستفتاءات التي أشرفت عليها الأمم المتحدة وتفاصيل أخرى يعرفها البصري أكثر من غيره.. بعد ذلك، أصبح المغرب يتحدث عن حل سياسي متفاوض بشأنه ونهائي، أي التفاوض حول نوعية وحجم السلط المخولة للحكم الذاتي كحل نهائي غير متبوع بأي استفتاء. وهذا موقف عارضه كذلك إدريس البصري ومبرره أن حكما ذاتيا محليا في الصحراء سيكون بوابة لانفجار المغرب من خلال مطالبة جهات أخرى بنفس الحقوق (...) لكن في التصريحات الأخيرة أضحى البصري يطالب بإجراء الاستفتاء مع إمكانيتين: البقاء مع المغرب أو الانفصال. وهو يعرف نتائج ذلك. وهكذا، أصبح متبنيا لموقف جبهة البوليساريو والجزائر وبعيدا حتى عن مواقف دول كبرى، مثل إسبانيا، فرنسا والولايات المتحدة التي تتبنى الاستفتاء كمبدأ، ولكنها تبحث عن حلول تغني عن إجرائه.
يظهر بالواضح أن مواقف البصري فيها الكثير من منطق تصفية الحساب أكثر من الموقف المبدئي أو المبني على منطق سياسي متجانس.
فالبصري هو أحد المسؤولين الكبار لوصول ملف قضية الصحراء لما وصلت إليه اليوم بسبب سوء التدبير. لكن من حقه اليوم أن يغير تحليلاته ومقاربته ونظرته. لكن هل نصدق أنه غير حتى من موقفه من مغربية الصحراء أساسا ليس كحق تاريخي أو قانوني ولكن كمسلسل إجرائي لتثبيت ذلك الحق؟ ليس البصري وحده مسؤولا عما آل إليه الملف ولا هو ممنوع من تغيير تحليلاته. فالاستفتاء بعد حكم ذاتي معناه نهاية القضية، وحتى الحكم الذاتي لن يؤدي إلا لنفس النتيجة. لكن ألم يبق غير الاستفتاء بالانفصال أو مغربية الصحراء في هذه الظروف؟ إذا كان البصري متشبثا بمواقفه السابقة (والتي أرسل للسجون كل من عارضها) وكانت نيته صادقة سيدرك أن ما يقترحه الآن هو كذلك نهاية للقضية. هناك إمكانيات وبدائل أخرى، لا أود الخوض فيها الآن لأن باب الحوار العقلاني ليس مفتوحا بعد. وكخلاصة فإن البصري ساهم في قيادة الملف نحو الحافة وبعدها تراجع ويحاول إعطاء الملف دفعة إلى الأمام (تذكروا الحافة) بسبب صراعه مع محيط الملك كما يسمي هو صراعه مع البلاط.

محيط الملك
رأي إدريس البصري في محيط الملك: أناس ليست لهم خبرة، مبتدئون، ليست لهم الكفاءة لتدبير شؤون الدولة... هؤلاء هم خصومه.
هو يحب محمد السادس ويحترمه ويستصغر المحيطين به. يقول عن المعارضين للحسن الثاني سابقا إنهم عوضا عن إنتقاد الحسن الثاني كانوا ينتقدون البصري!
لست بصدد إصدار أحكام على هذا المحيط، ولكن يظهر واضحا أن حكم إدريس البصري يهم المحيط والمركز على السواء... ولكن البصري لا يقطع شعرة معاوية ولو أكاديميا أو من حيث التحليل السياسي الصرف، لأن الأمر لا يتعلق بانتقادات لتصحيح الاعوجاجات، ولكن لإظهار نقط الضعف واستعراض نقط قوته وهو المدرك أن ''الماكينة'' السياسية تدور وقد تجعله يوما ما في المحيط وآخرين بفرنسا !! أحكام القيمة التي يصدرها يحضر فيها الذاتي والمصالح أكثر ، وإن لم تكن كل أحكامه وتحليلاته بالضرورة مجانبة للصواب.

بن زكري، حرزني والوديع
في سياق هجومه على محيط محمد السادس، استهجن إدريس البصري أن يكون بنزكري وحرزني والوديع ''مرشدين'' للدولة وهم من كانوا يحاولون زعزعة أركان نظام الحكم أيام الحسن الثاني!!
اتخذ البصري من مناضلي اليسار أعداء له وأرسلهم للسجون لأنهم يريدون زعزعة النظام، وحين أصبحوا ''مرشدين'' -في نظره - للنظام الحالي لم يعجبوه كذلك؟! شخصيا أرى في ذلك نتيجة حتمية لللاعقاب الذي يستفيد منه البصري وغيره ممن يرون اليوم ضحاياهم ولا يطأطئون رؤوسهم أو يخجلون حتى مما صنعوا بمعارضيهم ومعارضي النظام الذي كانوا يخدمونه!
إذا كان هناك من خلاف مع بن زكري وحرزني والوديع اليوم فهو حول المقاربة الأكثر ملاءمة لما تعيشه البلاد اليوم. أما ماضيهم، فهو تاج فوق رؤوسهم كشباب ناضل ضد الاستبداد والقمع وضحى بدون حساب من أجل الوطن والوطن فقط. ولا يمكن لأي كان- فالأحرى البصري- أن يجعل من هذا الماضي سبة أو شتيمة. ولكن اللاعقاب يجعل الجلادين اليوم يسبون ضحاياهم عوض أن يطلبوا الصفح... يعطون نصائح حول الانتخابات وهم من كانوا يزورونها من ألفها إلى يائها...
هل يمكن أن نستسيغ اليوم قول البصري بأن الانتخابات في عهده كانت شفافة على عكس الانتخابات الأخيرة. صحيح في عهده لم يتم التستر على النتائج النهائية، ولكنها كانت كلها مزورة حتى وهي منشورة على الملأ . الانتخابات الاخيرة لم تكن شفافة تماما ولكنها أقل عبثا . هدا لايعفي الساهرين عليها من خطيئة التستر على نتائجها التفصيلية إلى حد اليوم.
هل نصدق إدريس البصري وهو يقول إنه خلال 30 سنة لم يتم اعتقال إلا 3000 مواطن، بينما بعد أحداث 16 ماي تم اعتقال 7000!!؟ هل نسي إدريس البصري انه اعتقل عشرات الألوف من المغاربة وطرد من الوظيفة العمومية المئات وتم قتل العشرات؟ مقاربة ما بعد 16 ماي كانت خاطئة في كثير من جوانبها، لكن ذلك لا يعفي البصري مما وقع في عهده.
هل يتحدث البصري يوما عما جرى حقا خلال عهده؟ ذاك ما قد يفيدنا لتجنب ماجرى. وهل يعترف بما اقترفت يداه؟ وذاك ما قد يكون خطوة أولى نحو التوبة واستقامة تحليله... غير ذلك، سيأخذ إدريس البصري- من خلال خرجاته الإعلامية- الرأي العام رهينة بين يديه في صراعه مع محيط الملك. ليس أكثر.
الطيب حمضي

الإساءة للنبي

كنت قد قررت مسبقا الكتابة هذا الأسبوع عن الأحداث والحوادث التي يعرفها العالم الإسلامي في إطار ما عرف بقضية الرسوم الكاريكاتورية المهينة للرسول عليه السلام. ثم جاءني الخبر الأليم المتعلق بوفاة رجل مميز، نزيه، مخلص، مؤمن، متفتح، متفان في عمله، صاحب ضمير هو عبد السلام حادوش. أنتم لا تعرفونه أو قليلكم يعرفه. هو رجل قضاء وعالم خريج جامعة القرويين، كان عضوا برابطة علماء المغرب، وعمل بسلك القضاء متحملا عدة مسؤوليات. رغم المراكز التي احتلها والتي كان من الممكن أن تدر عليه الثروات، إلا أن المرحوم عاش على عرق جبينه ومات بالإمارات، حيث كان يعمل بعد تقاعده بالمغرب ضمانا لحياة كريمة من عرق جبينه وحبَّا في العمل الذي تفانى دائما فيه.
حين علمت بوفاة المرحوم الأستاذ حادوش ودفنه بطنجة، رجعت لمكتبتي أقلب صفحات كتابه ''إدماج المرأة في التنمية في محك السياسة الشرعية''، الذي كان أهداني نسخة منه بعبارات رجل متواضع زاهد حتى النخاع. رجعت للكتاب أتصفحه مسترجعا أحاديث الرجل ونقاشاته خلال الفرص القليلة التي تشرفت بمقابلته خلالها. وفي الصفحة الأخيرة، وجدت فقرة تغنيني عن التوسع في وصف أو تقييم ما يقع اليوم بالعالم الإسلامي من ردة فعل تسييء للإسلام أكثر ما تدافع عن نبينا محمد، الذي هو في غنى أصلا عن أفعال مشينة يقوم بها البعض باسم الدفاع عن الإسلام وحب النبي!! أنا هنا لا أتحدث عن ردود الأفعال الحضارية، المدنية، بل عن أعمال العنف والترهيب والبلطجة المرتكبة هنا وهناك بإيعاز ودوافع خاصة لا علاقة لها لا بالرسوم ولا بالنبي ولا حتى بالدين!
الفقرة المعنية كتبها المرحوم عبد السلام حادوش في الغلاف الأخير لكتابه حول إدماج المرأة في التنمية، وهو بحث متنور وتأصيل متفتح ومتقدم ومسنود لأهم ما أثار الخلاف حول الخطة المعلومة بخبرة رجل مارس القضاء عقودا، وأسانيد فقيه وعلامة متضلع وعقل رجل متنور. تقول الفقرة حول مؤلفه: ''علما بأني توخيت فيما حواه هذا المؤلف مقاصد السياسة الشرعية التي تتغيا مصلحة الأمة ودرء المفسدة عنها تحت ''يافطة'' الوسطية والاعتدال، فرارا من التطرف والتنطع المنهي عنه شرعا، حيث قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، ''هلك المتنطعون ـ هلك المتنطعون ـ هلك المتنطعون''، كررها ثلاث. المتنطعون هم: الغالون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، ''من صحيح مسلم''. انتهت الفقرة.
ونحن اليوم بحاجة حقيقية لأصوات مثل صوت عبد السلام حادوش لمواجهة وإسكات مثل هؤلاء المتنطعين. لحدود الساعة، تم إحراق السفارة الدانماركية والنرويجية بدمشق، بعدها بيروت، وتم الهجوم على كنيسة ببيروت وتدمير ممتلكات هناك لساكنة مسيحية. كاد الأمر أن يتحول لمجزرة لولا ألطاف الله. وهناك ''إخواننا'' في كتائب الأقصى الذين أعلنوا أن كل مواطن دانماركي أو نرويجي أو فرنسي بفلسطين أضحى غير آمن على حياته! وقس على ذلك.
ألم يكن من الممكن أن نُفهِم الصحيفة التي نشرت الرسوم إياها أن ذلك عمل مشين في حق الرسول وماس بالدين الإسلامي وجارح لمشاعر المسلمين عبر العالم، أن نفهمها هذا وأكثر بطرق حضارية غير الحرق والتهديد بالقتل؟ بلى، والدليل أن العديد من المسلمين عبروا عن استنكارهم بطرق حضارية. لكن للأسف، فإن الحوادث المثيرة هي التي تحتل شاشات التلفزيون وليس الهادئة.
الرسوم التي نشرت هي ماسة بشخص الرسول وجارحة لمشاعر المسلمين، سواء نشرت بدولة تحترم حرية التعبير أو لا تعترف بها، حتى نحن في عالمنا الإسلامي لا نفهم كيف أن الحكومة لا تستطيع فعل شيء لصحيفة. لكن هذا هو الواقع. ونحن علينا أن نحتج ونندد ونشجب عملا مثل هذا حتى وإن كان من ضمن حرية التعبير أن تنشر الصحيفة ما نشرته. حرية التعبير مقدسة ولا يجب أن نعاديها ولكن هذه الحرية القانونية الحقوقية لا يجب استعمالها للحط من ديانة بعينها أو المس بمشاعر ملايين الناس.
الجريدة والحكومة الدانماريكة اعتذرتا عن ما لحق المسلمين من أذى بفعل الرسوم، ولكنهما لم تعتذرا عن نشر الرسوم. هما متشبثتان ومحترمتان لحرية التعبير وآسفتان للأذى الناتج عن ذلك. من جهته، العالم الإسلامي بإمكانه التعبير عن تدمره واستنكاره للمس بدينه ورموزه مع احترامه لحرية التعبير. القضية ليست صعبة ولا مستحيلة: من حقكم أن تنشروا ما شئتم، ولكن من حقنا أن نغضب وننتفض لما يصيبنا من أذى بفعل ما تنشرون. وبين الفعل ورد الفعل الحضاري، سيجد العالمان الغربي والإسلامي منتصف الطريق التي تكرس حرية التعبير واحترام مشاعر العالم الإسلامي.
ليس من الدفاع عن الاسلام في شيء أن يحس مواطن دانمراكي عاد بفلسطين أو ماليزيا أو مراكش أن حياته في خطر بسبب فعل لا علاقة له به إطلاقا! فلا الصحيفة ناطقة باسم الشعب الدانماركي ولا حتى باسم الحكومة الدانماريكية ولا حتى قرائها!
الجريدة الدانماركية نشرت تلك الرسوم منذ أربعة أشهر. وهي محدودة الانتشار. وشخصيا لم أستيقظ يوما خلال الأربعة أشهر الماضية ووجدت أن الإسلام نقص ذرة أو أن مكانة النبي محمد عليه السلام تزعزعت قيد أنملة بسبب رسوم لم يطلع عليها أحد ولم يكن ليطلع عليها أحد لولا ما وقع... ولكن منذ انطلاق الأحداث ـ والعنيفة منها على وجه الخصوص ـ أصبحت أستيقظ كل صباح ويدي على قلبي خوفا من أن يقودنا المتنطعون إلى عزلة أكثر من تلك التي قادنا إليها عبر عقود حكامنا الظالمون باسم الإسلام هم الآخرون!
الطيب حمضي

الإضراب: الحق المشروع والأجر المدفوع

الإضراب حق مشروع. هذا نص دستوري وحق يضمنه الدستور كأسلوب من أساليب الدفاع عن الحقوق في حال فشل الحوار والمفاوضات وغيرها من الوسائل المتعارف عليها في حل القضايا الخلافية بين أرباب العمل والأجراء، بين القطاعات الحكومية وموظفيها...
وقد كانت ممارسة هذا الحق تعتبر "جريمة" يكون مصير "مقترفيها" السجن والتعذيب والفصل عن العمل وأحيانا الاغتيال. لذلك، كان العمال أو الموظفون حين يقررون ممارسة هذا الحق، يقومون بالمغامرة بمستقبلهم، مستقبل عائلاتهم، والمغامرة بحرياتهم ومصدر رزقهم، بل التضحية بحياتهم في سبيل تحقيق مطالبهم. لكننا اليوم أمام أجواء أكثر انفتاحا وأكثر حرية، لا يشعر معها الداعي للإضراب ولا الممارس له بالخوف على حياته أو حريته أو حتى مصدر رزقه، باستثناء بعض الوحدات الإنتاجية أو المعامل التي يملكها أو يسيرها أناس ينتمون فكريا للعصور الوسطى.
لذلك، أضحينا نعيش على إيقاع إضرابات متتالية ومتنوعة ومختلفة المدد والأشكال ومتنوعة المصادر الداعية لها.. وشخصيا، أرى في ذلك ظاهرة صحية، بل طبيعية في بلاد لازال معظم موظفيها يعيشون في ظروف عمل غير إنسانية، ناهيك عن الأجور الهزيلة التي لا تكفيهم حتى لثلث الشهر، فالأحرى ثلاثون يوما بالتمام والكمال. وظاهرة طبيعية في بلاد لازال العمال محرومين من أبسط حقوقهم التي يضمنها لهم القانون، فالأحرى الأجور التي تضمن عيشا فقط ولا أقول عيشا كريما...
لكن ما لا أفهمه، ولا أتفهمه، هو أن يقوم الفرد بيوم أو عشرة أيام إضرابا دفاعا عن حقوقه وتلبية لدعوة نقابته، وفي آخر الشهر يهرع لسحب حوالته كاملة غير ناقصة وكأنه عمل الشهر كله من أوله لآخره!! وإذا ما لاحظ نقصا فيها (اقتطاعا) اعتبر ذلك تضييقا على نقابته وعلى حقه الدستوري في ممارسة الإضراب! وهدد وهددت النقابة التي ينتمي إليها بتنفيذ إضراب للدفاع عن قبض أجر عمل لم يقم به.
لنكن صرحاء. ليس هناك قانون في العالم، ولا مكان في العالم، ولا منطق في العالم يعتبر أن المضرب من حقه عدم العمل لمدة معينة، وفي آخر الشهر يقوم المشغل أو الشعب بأداء أجر أيام الإضراب!
صحيح أن الظاهرة- ظاهرة عدم اقتطاع أيام الإضراب- أصبحت محصورة في بلادنا في عدد قليل من القطاعات العمومية، لكن استمرار النقابات في قبول هذا الوضع، فالأحرى اعتباره حقا مكتسبا، يجعل من العمل النقابي مشوبا ببعض النقص في مشروعيته القانونية والأخلاقية.
في القطاع الخاص والمؤسسات شبه العمومية، كانت الأمور دائما محسومة: حين يقوم العمال أو المستخدمون بيوم أو أسبوع من الإضراب يتم اقتطاع ذلك من أجرهم دون أن يمنع ذلك العمال من استعمال هذا الحق كلما ارتأووا أن مطالبهم تستحق أن يُضحوا من أجلها بيوم أو أكثر من أجرهم الشهري.. يضحون بأجر الأيام التي لم يعملوا خلالها من أجل تحقيق مطالب كبيرة وحقيقية وسامية. وذلك الاقتطاع ليس عقابا لهم، ولكن ببساطة لأن الأجر هو مقابل العمل.
هناك بعض القطاعات العمومية القليلة التي لازالت لا تطبق مسطرة الاقتطاع وعقليات نقابية جامدة تعتبر أن انعدام الاقتطاع هو حق دستوري أو حق مكتسب أو أن الاقتطاع هو تضييق على حق ممارسة الإضراب.
وأنا أبحث في الموضوع للقيام بالمقارنات بين تجارب الدول، لم أجد أي نقابة، لا في الدول الديمقراطية ولا غير الديمقراطية، تعتبر الاقتطاع تضييقا على الحرية النقابية. ويمكن الاستئناس بالتجربة الفرنسية مثلا، وهي الدولة المولعة نقاباتها بممارسة الإضرابات. ليست هناك نقابة واحدة ولا حتى اجتهاد (ولا حتى تكاسل) يعتبر أن من حق المُضرِب أن يمتنع عن القيام بعمله -بشكل مشروع- والمطالبة بأجر أيام عدم عمله!
لذلك، أضحينا اليوم أمام إضرابات يدعو لها أي كان، متى ما كان وكيفما كان! وكل من دعا لإضراب يجد له أنصارا ومتعاطفين ومناضلين مستعدين للإضراب شريطة الحصول على أجرهم كاملا غير ناقص.
إن ممارسة الإضراب حق دستوري محتاج لأن تعمل الحكومة والنقابات معا على التوافق والتفاهم حول قوانين منظمة له من أجل تنظيم وتقنين ممارسته: متى يمكن ممارسة الإضراب؟ من له الحق في الدعوة له؟ كيف يتم تنفيذه؟ كيف تجب حمايته؟ كيف يجب معاقبة من يعيق ممارسته؟ ماهي الآجال التي يجب احترامها في الإعلام به؟..
هكذا، تكون الممارسة واضحة والحق محميا. لكن ما نحن بصدد الحديث عنه، اقتطاع أيام الإضراب، لا علاقة له ولا حاجة لتطبيقه، لا لمراسيم ولا لقوانين تنظم الاضراب.
هناك حاجة فقط لنقابات مسؤولة، شجاعة، متحلية بأخلاق وطنية وتفرض على نفسها وعلى مناضليها ومنخرطيها أن لا يمدوا أيديهم لأجر لا يستحقونه عن أيام لم يعملوها. مناضلون يرفضون أن يضعوا أيديهم في أموال الشعب لاستخلاص أجر غير مستحق.
وهناك حاجة لتطبيق القانون فقط.
هل هي دعوة للتضييق على حق الإضراب؟
بالمطلق لا، لكنها دعوة لإعطاء الإضراب وجهه النقابي والنضالي الحقيقي لفرز العمل النقابي الحقيقي عن المزايدات الفارغة، ولفرز المؤسسات النقابية الحقيقية عن الذين يريدون الاستفادة من وضع خاطئ لإيجاد مكان لهم في الحياة العامة.
من قبل أيام سنوات الرصاص، كان أهون على الموظف أن يقتطع الأجر من أن يمارس الإضراب، لأن ذلك يؤدي إلى قطع الأرزاق وأحيانا الأعناق. لكننا اليوم أمام جهات أهون عليها أن تقوم بالإضراب على أن تذهب لممارسة عملها!
أقول هذا، وأنا أؤكد أن ظروف عمل الموظف بالمغرب، ومستوى معيشته، تتطلب ليس فقط إضرابا واحدا أو اثنين، بل إضرابات متواصلة. وإذا كانت الميزانية لا تسمح بتحقيق المطالب الدنيا للموظفين، فليس على هؤلاء التخلي عنها، بل على أولئك الذين يرسمون الميزانيات أن يذهبوا لحال سبيلهم وترك المجال لآخرين قد يفلحون في توزيع أكثر عدالة لخيرات هذه البلاد.
في انتظار ذلك، فإن الإضراب حق مشروع، لكن دون أجر مدفوع، والمناضلون الحقيقيون والنقابات الحقيقية لا تقبل أخذ أجور غير مستحقة والمطالب الكبيرة والمعقولة تستحق الإضراب والتضحية بأجر يوم أو يومين عمل أو أكثر حتى تحقيقها، وما دونها أو أقلها أهمية قد لا تستلزم إضرابات، بل احتجاجات، مسيرات، وقفات، حمل شارات أو غيرها من الأساليب النضالية الأخرى.

الطيب حمضي

الشيخة‮ ‬حمدة

السيدة حمدة فهد بن جاسم الثاني مواطنة قطرية، تنتمي للأسرة الحاكمة. لذلك، فاسمها يسبق بلقب شيخة. هذه السيدة توجد اليوم قيد الاحتجاز في منزل أسرتها الفاخر بالدوحة عاصمة قطر. تقول السيدة حمدة، في رسالة صوتية تمكنت من إيصالها إلى منظمة العفو الدولية، إن أهلها يسجنونها بقبو بالمنزل ويعاملونها معاملة الحيوانات. (في بلاد طبعا تعامل الحيوانات بالطريقة التي على بالكم).
لماذا أحدثكم اليوم عن هذه السيدة؟
إن القضية لم تبدأ هنا، ولم تنته هنا، وفيها غرائب عجيبة! كذلك، لأنه بإمكانكم أن تساهموا في إطلاق سراحها وسراح حالات عديدة قبلها وضمان أن لا يتكرر هذا.
لنعد إلى القضية أولا
السيدة حمدة بن جاسم تعرفت على رجل مصري، تقدم لخطبتها ورفض أهلها، لكنها تزوجته في مصر على سنة الله ورسوله. تسعة أيام بعد ذلك، تعرضت لعملية اختطاف بالقاهرة من طرف قوات الأمن القطرية بعد تخديرها، حسب ما زعم، وتم نقلها إلى الدوحة. وهناك احتجزت لمدة نصف سنة بمنطقة السيلية قريبا من القاعدة الأمريكية. وبعد ذلك، نقلت لنصف سنة أخرى إلى مكاتب إدارة الأمن الخاص في الدوحة. بعد ذلك، سلمت إلى عائلتها التي تحتجزها منذ نونبر 2003 إلى اليوم، حيث تتعرض للمعاملة اللاإنسانية والضرب.
هذا المصير لقيته السيدة حمدة، لأنها رفضت أن تتطلق من زوجها المصري وفضلت الاحتجاز والسجن على أن يتم إبعادها عن زوجها. لاحظوا أن عملية الاختطاف من القاهرة وعملية الحجز بالسجن وبمكاتب إدارة الأمن كلها تصرفات ''دولة'' خارجة عن حكم القضاء أو رقابته أو... بل تتم فقط بتدخل من عائلتها لدى أجهزة الدولة!!
زوجها المصري هو الآخر تعرض للإغراء المادي، حيث صرح أن عائلة زوجته عرضت عليه مليوني دولار (نعم أي حوالي ملياري سنتيم) ليطلق زوجته ويتخلى عنها، لكنه هو الآخر رفض.
وقد تدخلت منظمات حقوقية ومنظمة العفو الدولية لدى أمير قطر وسلطات قطر لحملها على التدخل لحل القضية ورفع الاحتجاز عن السيدة حمدة وفتح تحقيق حول ظروف وملابسات احتجازها. إلا أن كل هذه المناشدات ذهبت سدى أمام تدخل أهلها لدى أجهزة الدولة، وبسبب كون العائلة المحتجِزة تنتمي للعائلة الحاكمة، ولأن ''تقاليد'' الأسر هناك أن لا تتزوج النساء إلا بمن تختاره العائلة.
وهناك العديد من مثل هذه الحالات في دول الخليج، لكنها مسكوت عنها ولا يتحدث عنها أحد، رغم أن هذه التقاليد لا علاقة لها بالدين ولا بحقوق الإنسان ولا بالتربية ولا بأي قيمة إنسانية!
لكن الأغرب من هذا والذي أغاضني أكثر هو التبرير الذي قدمه رئيس اللجنة الوطنية القطرية لحقوق الإنسان (نعم قطر فيها لجنة وطنية لحقوق الإنسان) حيث يشكل ممثلو الحكومة أغلب أعضاء اللجنة!!! يقول الأمين العام لهذه اللجنة التي تدافع عن حقوق الإنسان: ''الجهات الرسمية ليس لديها أي مانع أن يحل موضوع حمدة وتعود إلى زوجها، ولكن المشكلة أن أباها وأمها غير راضيين'' (!!!) على مثل هذا الحل. ويقول الأمين العام إن تدخل السلطات بالقوة لحل الموضوع غير وارد خشية رد فعل عنيف من والدها الذي قال إنه هدد بقتلها. وحول أسباب احتجاز حمدة من طرف السلطات، يقول الأمين العام ''أبوها كان يريد ذبحها. هذا كان لحمايتها''(!!!).
ما قاله الأمين العام للجنة الوطنية القطرية لحقوق الإنسان أفظع بكثير مما أصاب السيدة حمدة.
إذا تمعنا في تصريحات الأمين العام نستنتج ما يلي:
إن الجهات المسؤولة على علم باحتجاز سيدة في أماكن حكومية وبمنزل أهلها. ولكنها لا تريد التدخل.
ونستنتج أن أي مواطن بقطر يمكن أن تحتجزه عائلته أو عائلة أخرى إذا كان والداه موافقين. وأن هذا الاحتجاز في مفهوم المدافعين عن حقوق الإنسان هناك ليس خرقا لحقوق الإنسان وليس جريمة يعاقب عليها القانون. ونستنتج أنه في قطر إذا تقدم مثلا زوج السيدة حمدة المصري وهدد بقتل رئيس اللجنة الوطنية القطرية لحقوق الإنسان، فإن السلطات القطرية ستحتجز السيد الرئيس لحمايته عوض اعتقال الرجل الذي يهدد بالقتل!!
إذا كانت اللجنة الوطنية القطرية لحقوق الإنسان بمثل هذه الثقافة الحقوقية لرئيسها، فعلى حقوق الإنسان السلام!
ما أدعوكم إليه هو زيارة موقع منظمة العفو الدولية على الأنترنيت لمعرفة المزيد من التفاصيل. وأدعوكم إلى أن تستجيبوا لطلبها بمراسلة أمير دولة قطر ص.ب 923 الدوحة، قطر، فاكس (9744361212) لمناشدته من أجل التدخل لحل هذه لقضية وتمتيع المواطنة حمدة بحقوقها وفتح تحقيق حول ظروف احتجازها من طرف الدوائر الأمنية الرسمية. كلما كانت رسائلكم كثيرة بجانب رسائل من مختلف دول العالم كلما ضمنا الحرية للسيدة حمدة وضمنا أن لا يتكرر هذا.
ننتظر من قناة ''الجزيرة'' القريبة من مكان الاحتجاز أن تزورها وتخبرنا بذلك.n الطيب حمضي

الحقيقة‮... ‬والتنمية

لم يسمح لي الوقت للاطلاع بعد على التقرير الشامل الصادر عن هيأة الإنصاف والمصالحة ولا على تعليقات الاختصاصيين وهيآت حقوق الإنسان المغربية والدولية، ولا على التقرير النهائي حول التنمية البشرية الذي لم ينشر كاملا بعد. لكن ملخصات التقريرين تعطي عناصر أولية للتفكير والملاحظة.
في تقديري الشخصي الأولي، إن عمل اللجنتين هو عمل إيجابي وإن كان ناقصا. على الأقل، لم يدع أي من الفريقين أنه وصل الكمال وأن الملف طوي كما كان يحدث في السابق. ومن أهم حسنات عمل هيأة المصالحة أنها وضعت تقريرا محددا بمعطيات محددة أسود على أبيض. ويمكن لهذا التقرير أن يكون موضوع إغناء أو نقد أو إثراء، وأساسا لمنطلقات وإسقاطات حقوقية وسياسية وقانونية وغيرها.
لقد نظمت الهيأة جلسات استماع عمومية كانت من الأهمية بمكان رغم ما شابها من نواقص. فنحن لسنا بصدد إقبار نظام سياسي بشكل كامل وبعث نظام سياسي جديد، بقدر ما يتعلق الأمر بمحاولة توليد ممارسة سياسية جديدة من صُلب نظام سياسي مستمر، وإن كان ''شكل ثاني''. هنا، دقة المرحلة وخصوصية التجربة. وإلا سنكون مطالبين بتعليق كل شيء حتى تغيير النظام السياسي نفسه!
أهمية جلسات الاستماع أنها شوهدت من طرف الضحايا وعائلاتهم ومعارفهم وجيرانهم حتى يرد لهم الاعتبار، وشوهدت من طرف الجلادين وعائلاتهم (...) وشوهدت من طرف ''رجال القضاء'' الذين تواطؤوا مع الجلادين، وشوهدت خصوصا ـ وهذا هو المهم ـ من طرف المسؤولين الأمنيين والقضائيين الحاليين، الشباب والحديثي العهد بالمسؤولية. ولاشك أنهم، بعد مشاهدة وسماع الشهادات، لا يمكنهم مطلقا الاطمئنان إلى أي حماية وهمية لأي جرائم قد يطلب منهم ارتكابها الآن أو مستقبلا...
وأهمية عمل الهيأة أنها وضعت أمامنا تقريرا بمعطيات من السهل تكذيبها إن لم تكن صادقة، أو إغناؤها إن كانت ناقصة، أو تثبيتها إن كانت كاملة. وهي لم تقم بما قام به إدريس البصري في العهد السابق حين أجبر ممثلي كل الأحزاب والنقابات وغيرها الممثلة آنذاك بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان على توقيع التزام بعدم فتح ملف الاختفاءات وغيرها بعد نشر اللائحة إياها والتي لم تكن تضم حتى أشهر المختفين المهدي بن بركة!!!
اليوم، نحن أمام تقرير يدعو إلى استكمال البحث، ويقدم توصيات مهمة لتفادي تكرار ما جرى. وعلى الدولة والمجتمع تحمل المسؤوليات لتبيان ما خفي لحد الآن. هناك الأحزاب والبرلمان والقضاء والهيأة الحقوقية والرأي العام والضحايا. هل نحن في حاجة إلى لجن أخرى؟
علينا أن نسرع بدفن هذا الماضي الأليم بما يرد الاعتبار للضحايا وللمجتمع وبما يضمن عدم تكرار ما جرى. وفي هذا المجال، هناك تجارب دولية ومقاييس كونية. يجب الاستمرار في الاستلهام منها. ومن هنا، فإن التوصيات الدستورية والقانونية للهيأة يجب أن تكون محل نقاش وإغناء من أجل تفعيلها وإثرائها. من هنا كذلك، أهمية ضرورة أن تقدم الدولة اعتذارا واضحا عما جرى. لا يهمني كثيرا من يقدم الاعتذار، بقدر ما يهمني أن يكون هناك اعتذار باسم الدولة. ومن جهة أخرى، فإن طي هذا الملف لن يستقيم تماما دون إعفاء ـ على الأقل ـ المسؤولين عمَّا جرى من بين الذين لازالوا يمارسون مهامهم من أمنيين وسياسيين وغيرهم. وحتى أكون صريحا، فإني أدعو إلى إزاحة المسؤولين المنفذين لتلك الفظاعات، والأمر نفسه بالنسبة لقيادات الأحزاب السياسية التي لم تحرك ساكنا أبدا أمام فظاعات ما كانت تعرفه عن معتقلات مثل تازمامارت وظروف اختطاف واحتجاز عائلة أوفقير ومنهم أطفال. وهنا، يجب أن نتذكر أن بن سعيد آيت يدر هو الذي كانت له الجرأة لفضح معتقل تازمامارت، صحيح أن بعض ـ وأقول بعض ـ تلك الأحزاب كانت تتحدث عن معتقليها وعن معتقلين سياسيين وآخرين، ولكنها لم تكن مطلقا تحرك ساكنا أمام الحالات الأخرى، رغم أن الانتهاكات الجسيمة كانت واحدة بل أفظع! إن على هؤلاء المتواطئين بالصمت أن ينسحبوا هم الآخرين في هدوء.
ورغم كل ذلك، فإني من دعاة التوجه نحو المستقبل ودفن هذا الماضي (كما يليق). نحن في هذا المضمار نحقق بعض الخطوات وإن كانت بطيئة وإن كانت متعثرة، لكننا نتحرك. لكن الخطر الذي يتربص بنا اليوم أكثر هو الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمواطن المغربي. في هذا المجال، هناك قنابل موقوتة لا يهتم بها أحد أو تقريبا: لا الدولة ولا الفاعلون السياسيون. وأخشى أن نتحول إلى ''سوبر خبراء'' في ''السياسة'' وفاقدي البصر والبوصلة في الاقتصاد والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، علما أن المواطن ينتظرنا هنا بالذات والآن وليس غدا!!
أملي أن لا يتركز النقاش حول الماضي وحده وحول تقرير هيأة الحقيقة والمصالحة ونهمل التقرير الثاني. فللأول أهميته، لكن إذا لم نهتم بما يعانيه شعبنا وما ينتظرنا فلا حاجة لنا ''بخبراء الماضي'' مادام المستقبل عدم!
الحقيقة لا أهمية لها إذا لم ترمم الذات لتجعلها قوية ومعافاة لمواجهة المستقبل.n

الطيب حمضي


الإسلاميون

الإسلاميون المغاربة في الحكومة. وأصدقاء سعد الدين العثماني مستوزرون. هل هو سيناريو كارثة؟ كابوس ديمقراطي؟
لقد كان من الواضح تماما بعد الانتخابات الجماعية والتشريعية الأخيرة أن هذا الاحتمال أضحى أكثر فأكثر قريبا من التحقق. وفي اعتقادي أن هذا احتمال يجب التعامل معه بروح إيجابية، ونظرة استراتيجية شاملة. وبهذا المعنى، فإن مشاركة الإسلاميين في الحكومة هي مشاركة مطلوبة ومفروضة.
مشاركة مفروضة، لأن المنطق الديمقراطي يقتضي ذلك. فلكل الهيآت السياسية التي تتبارى في الساحة وتحصل على ثقة الناخبين مفروض أن تشارك في تدبير الشأن العام كلما سمحت لها الأصوات التي حصلت عليها بذلك، إذ سيكون من العبث أن يعتقد أحد أن الإسلاميين كراكيز يمكن إلهاؤهم في مؤسسات سياسية وسرقة مشروعيتهم الديمقراطية أو الانتخابية لصالح هيآت أخرى تدبر الشأن العام عوضهم.
ومشاركة الإسلاميين في الحكومة مطلوبة ـ وليست مفروضة فقط ـ لأن من شأن هذه المشاركة أن تبين لهم وللناخبين كيف أن تدبير الشأن العام بشكل جيد لا يكفيه مثلا ترديد بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية أو الشعارات الرنانة أو حتى النوايا الطيبة والنيات الصادقة حقا.
فالإسلاميون الذين يحصدون الأصوات خلال الانتخابات يدركون أنهم سيستفيدون من موجة عامة عنوانها هيمنة الفكر الديني منذ عقدين أو ثلاثة عقود على غيره من التفكير. ويدركون أنهم سيستفيدون من فشل الهيآت السياسية الأخرى في الحفاظ على ثقة الشعب وعلى المصداقية السياسية الضرورية. ويدركون قبل غيرهم أن هذه الثقة هي مسؤولية ملقاة على عاتقهم بكل خطورتها ومخاطرها.
كما أن الناخبين الذين يئسوا من أنظمة حاكمة فاشلة من مشرق الوطن العربي إلى مغربه، ويئسوا من هيآت سياسية، إن عارضت عارضت على مقاس الحاكمين، وإن دبرت دبرت على نفس طريقة الحاكمين، وإن حكمت فسدت ككل الحاكمين، هؤلاء الناخبون يقررون يوما بعد يوم إعطاء أصواتهم لهيآت ومرشحين يلبسون عباءة الدين، ويمارسون السياسة من منظار ديني وأخلاقي: العفة والطهارة والصدق والحق والأمانة وغيرها من القيم. وهؤلاء الناخبون ـ أو على الأقل من لايزال منهم يتحمل عناء الذهاب لصناديق الاقتراع ـ ليس له ما يخسره إن هو جرب طينة أخرى من المرشحين.
من هذا المنظور، سيكون مفيدا للناخبين وللإسلاميين، وللديمقراطية نفسها، أن يتحمل الإسلاميون مسؤولية تدبير الشأن العام حتى يكتشفوا بأنفسهم أن الخلفية الدينية لا تكفي، وليست بالضرورة رافعة لتدبير فعال. ويكشف الناخب أن الخلفية الدينية ليست بالضرورة مرادفا لتحسين وضعه الاجتماعي أو إيجاد فرص العمل أو تحسين ظروف السكن. هذا لا يعني طبعا أن مآل الإسلاميين هو الفشل في تدبير الشأن العام مهما فعلوا. بل معناه أن مآلهم الفشل إذا لم يتسلحوا ببرنامج سياسي واقتصادي حقيقي مبني على تصورات وقرارات وأرقام. فالنيات الحسنة لا تطعم ولا تسكن ولا تخلق مناصب شغل. إذا نجح الإسلاميون في تجربتهم فإنهم مستقبلا سيحصلون على ثقة الناس، لأن لهم برنامجا وتجربة ناجحة. وإن فشلوا فإن الناخب سيشيح بوجهه عنهم، ليس كرها في الدين، ولكن إدراكا منه أن التدبير الجيد للشأن العام ليس عنوانه ''السبحة'' أو ''اللحية'' ولكن الإرادة والبرامج والأرقام والآليات والنصوص الجيدة، وهذه في متناول من يبحث عنها إسلاميا كان أو غيره.
يبقى هناك تخوف من شرائح اجتماعية واسعة وهو السؤال: ترى ماذا لو تمكن الإسلاميون من الحكم واستبدوا به؟
في تركيا، هناك مؤسسة الجيش التي تشكل صمام الأمان ضد أي تهور، وهناك رغبة الأتراك في الالتحاق بالاتحاد الأوربي، وبالتالي فإن الشعب نفسه لن يسمح بأي تطرف ديني في أجهزة الدولة.
وفي المغرب، هناك الملكية التي هي الحاكمة الفعلية، وبالتالي فإن مشاركة الإسلاميين لن تعدو ولن تتعدى حجم المشاركة في الحكومة (مع أطياف أخرى) مع صمامات أمان متعددة تتحكم فيها المؤسسة الملكية. وبالتالي فإن التجربة لن تكون مخيفة.
ستكون مفيدة لنا وللعالم العربي كله كنموذج تجريبي. لذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى مهتمة بهذا السيناريو.n

الطيب حمضي

اللعب مع الصغار

من البداية أقول إن القانون الانتخابي الذي خرج من مطبخ الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال برعاية وزارة الداخلية هو كارثة ديمقراطية، ومؤشر خطير علىمدىالاستبداد الذي يعشش في نخبنا. هو قانون متطرف، أصولي، معادٍ للديمقراطية، انقلابي واستبدادي. وستأحدث عن هذه الميزات، كلا علىحدة. لكن الأخطر منه هو أنه صادر عن الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وليس عن إدريس البصري أو أوفقير أو حتى عن حزب الكومسير عرشان. هذا أخطر ما في القضية بالنسبة لي. أما القانون نفسه، فأنا مقتنع تماما بأنه يستحيل أن يمر سواء بالمعارضة التي لقيها، أو بحكم المجلس الدستوري أو بالتدخل الملكي.
لنذكر أولا بالتعديلات التي نتحدث عنها. أولا، يرىالاتحاد الاشتراكي حزب الاستقلال أن الأحزاب الجديدة أو التي لم تشارك في انتخابات 2002 أو التي شاركت وحصلت على نسب أقل من 3 بالمائة من أصوات الناخبين لا حق لها في منح التزكيات لمرشحيها خلال انتخابات 2007. يعني أن السيدين محمد اليازغي وعباس الفاسي لهما الحق في تزكية مرشحيهما، والآخرون لا، باستثناء شركائهم في الحكومة والعدالة والتنمية.
التعديل الثاني يهم رفع النسبة التي تخول للأحزاب الولوج للبرلمان من 3 إلى 7 بالمائة. ولنذكر كذلك أن الاتحاد الاشتراكي كان يطالب برفع عتبة الاستفادة من الدعم العمومي للأحزاب إلى 10 بالمائة ولم يقبل بنسبة 5 بالمائة إلا بتدخل من وزارة الداخلية.
هذه هي التعديلات. ولنتمعن في معانيها.
1 ـ الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال يريدان الانطلاق نحو انتخابات 2007 بامتيازات مسبقة، مقارنة مع باقي الأحزاب، لسبب بسيط هو إدراك أحزاب الأغلبية الحكومية أن مستوى جماهيريتها قد وصل إلى أدنى المستويات. وعوض التململ لإصلاح حالها، تريد إقصاء أي منافسة محتملة، آنا أو مستقبلا. هي لا تريد للشعب المغربي أن يجد أمامه إلا حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. أما العدالة والتنمية فالدولة مكلفة بتحجيمها.
2 ـ هذه الأحزاب، عوض أن تضع نفسها موضع المحاسبة والمساءلة، تريد إخلاء الساحة من أي قوة معارضة وذات مصداقية. فالاتحاد والاستقلال يريدان كمنافسين فقط الحركة الشعبية والأحرار والعدالة والتنمية، حتى إذا توجه الناخب إلى صندوق الاقتراع فضل الأعمش على الأعور…
3 ـ هذه التعديلات تعني التشريع للاستبداد، بحيث إن الاتحاد الاشتراكي ما أن وصل إلى الحكومة حتى أخذ يحاول التشريع لكل الطرق والوسائل ليظل خالدا بها. إن الديمقراطية سُلَّم يمكن من الوصول إلى السلطة ويجب أن يظل بمكانه ، والآن يحاولان إزالة هذا السلم حتى لا يستعمله أحد بعدهماا الديمقراطية للوصول إلى بعض من السلطة، والآن يحاولان إزالة هذا السلم حتى لا يستعمله أحد بعدهما. وهذا أخطر ما في الأصوليات الدينية. استعمالها للديمقراطية وسيلة للوصول للحكم، وبعدها إلغاء الديمقراطية نفسها.
4 ـ هذه التعديلات هي بمثابة انقلاب على الديمقراطية. فالمنطق الانقلابي الذي ساد في العالم الثالث خلال الستينيات والسبعينيات ـ والاتحاد الاشتراكي والاستقلال يشهدان على ذلك ـ مبني على السطو على السلطة بطريقة غير ديمقراطية والمحافظة على السلطة بطرق غير ديمقراطية. وهذه التعديل، كتبتُ أن محاولة منع الدعم عن الأحزاب تحت عتبة 10 بالمائة إنما هو تشريع مقنع للحزب الوحيدم عن الأحزاب تحت عتبة 10 بالمائة إنما هو تشريع مقنع للحزب الوحيد. وهذه التعديلات تؤكد ـ للأسف ـ هذا التحليل وهذا المنحى.
6 ـ هذا عن التعديلات. أما أخطر ما هالني شخصيا هو أن تكون هذه التعديلات صادرة عن أحزاب وطنية وديمقراطية ويسارية وحداثية.
هذه هي الفاجعة. لو صدرت عن وزارة الداخلية أيام أوفقير أو البصري، لقلنا إنه المنطق الأمني الذي يحاول تشريع الاستبداد. لكن أن تصدر عن الاتحاد الاشتراكي، أو علىالأصح عن تيار بعينه داخل الاتحاد، فهذا مؤشر خطير على مدى تشبع أحزابنا ونخبنا بالديمقراطية.
كنت ولازلت من الذين يقولون إن توسيع اختصاصات الحكومة مهم جدا على حساب الاختصاصات الملكية، لأن هذه هي الديمقراطية، وهذا هو توجه التاريخ. وكنت أومن كذلك بأن الأمر يقتضي أولا تأهيل هذه الأحزاب التي ستستلم هذه الاختصاصات. واليوم، تقدم وزارة الداخلية درسا تطبيقيا حول حقيقة الأحزاب التي تحكمنا. أعني الأحزاب الديمقراطية. قبل سنوات، كان الحسن الثاني يلاعب الكبار. ربما على محمد السادس اليوم، ونحن معه، أن ينتظر بعض الوقت لتخلو الساحة من لعب الصغار.

صدام‮ ‬حسين

أتابع بغير قليل من الاهتمام ما ينشر ويذاع وينقل من صور وأخبار عن محاكمة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين وسير هذه المحاكمة وتصريحاته. ولحد الساعة، أحس بالارتياح والاطمئنان لعدالة السماء والأرض التي لم تترك مجرما يذهب إلى قبره قبل تأدية الحساب، وأحس بالاطمئنان أكثر لأن هذا المجرم له فرصة الدفاع عن نفسه وتبرئتها من الاتهامات التي وجهت إليه، سواء من طرف المحكمة أو من طرف شعبه قبل المحاكمة وقبل سقوط نظامه.
هل من حقي أن أصفه بالمجرم، وهو لايزال متهما؟! لست عضوا في هيئة المحكمة ولا وزارة ولا إدارة لمراعاة التوصيف القانوني. أنا مواطن عربي كنت شاهدا على الجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين في حق الشعب العراقي، والقتل والدمار الذي ألحقه بالشعبين الإيراني والكويتي، فقط لأن مزاج الرئيس كذلك!
ليس في نيتي اليوم الحديث عن الفظاعات والجرائم التي ارتكبها صدام حسين ومعاونوه في حق الشعب العراقي. فالأمر يتطلب حيزا أكثر من هذه المجلة، فالأحرى الزاوية! لكني سأخصص الزاوية للقراءة الأخرى للمحاكمة: ماهي إسقاطات المحاكمة الجارية على الشارع العربي شعوبا وحكاما؟
صحيح أن الظروف التي أطيح فيها بالنظام العراقي وظروف القبض على رئيسها وظروف تشكيل وسير المحاكمة، هي ظروف غير عادية، لأن للاحتلال الأمريكي اليد الطولى فيها. لكنها مع ذلك محاكمة وأكثر من عادلة -لحد الساعة- إذا ما قورنت مع العدالة الممارسة في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. أما إذا قورنت مع ما كان يمارسه صدام، فالمحاكمة جزء من ''الخيال العلمي'' الذي لم يكن لأي عراقي أن يحلم به! ومع كل ذلك، فإن من حق صدام أن يتمتع بمحاكمة عادلة. إنه إنسان وله حقوق كباقي البشر!
هناك فائدتان أساسيتان تنفذان إلى الحياة اليومية للشارع العربي من وراء المحاكمة. الأولى، تهم تمثل الشارع العربي لمفهوم الزعامة والعدالة. والثانية، تهم الحكام العرب المستبدين ودائرة المحيطين بهم وتمثلهم للمسؤولية.
الشارع العربي، مثله مثل الشارع العراقي، جزء منه خرج متظاهرا محتجا على محاكمة ''البطل''، مطالبا بإطلاق سراحه بلا قيد ولا شرط، لأنه الزعيم الرمز. وجزء آخر يتظاهر لإعدام صدام حسين فورا، ويعتبر المحاكمة مضيعة للوقت وإعطاء الفرصة لجلاد للظهور على التلفزيون واستفزاز الشعب العراقي، وخصوصا ضحاياه وضحايا نظامه.
هذا المعسكر كما ذاك سيكتشف مع صور المحاكمة ماهية العدالة والحقوق. العدالة ليس هي إلحاق العقاب بالناس لمجرد أننا مقتنعون بالجريمة. العدالة هي أن يطال العقاب المجرم بعد إثبات التهمة عليه، وإعطائه فرصة الدفاع عن نفسه. والعدالة ليست هي أن نسمح لأي كان بارتكاب الجرائم وعدم المحاسبة عليها تحت أي ظرف مهما كان إلا ما تقرره العدالة، أي لا إفلات من العقاب، أو أن يكون العقاب موازيا للجرح الذي نحس به وموازيا لحجم رغبتنا في الانتقام. العدالة هي أن يكون العقاب موازيا لما ينص عليه القانون، والقانون وحده.
من جهة أخرى، أتصور وضعية الذل التي يعيشها الحكام العرب المستبدون أمثال صدام أو أقل أو أكثر منه، وهم يتابعون صوره وأخبار المحاكمة. متيقن يقينا تاما أنهم كلهم يفضلون لو أنه أُعدِم قبل المحاكمة حتى لا يعيشون ولو ''إعلاميا'' ما يمكن أن تكون عليه أوضاعهم هم أنفسهم في يوم ليس ببعيد! وحين ستتطور المحاكمة، سيصل المتهمون إلى مرحلة تحديد المسؤوليات: من أعطى الأوامر وكيف ومتى ومن نفذ؟! كل هؤلاء المحيطين بحكامنا الذين ينفذون أوامر الحكام حتى وهم يعلمون أنها مخالفة للقانون تحت تبرير أنها صادرة من فوق، وأنها رغبة ''الرأس الكبيرة''، كل هؤلاء سيشاهدون درسا تطبيقيا في المسؤولية. وسواء شاهدوا أو لم يتابعوا المحاكمة، فإن المحاكمة في حد ذاتها بمثابة دق لناقوس علّه يوقظهم من سباتهم. ويوم يطلب منهم الدوس على القانون، عليهم تذكير وتنبيه حكامهم عوض الامتثال والاستقواء على شعوبهم.
إن المحاكمة طريق نحو تحقيق العدالة. أتمنى أن تستمر على نفس المنهاج الذي يديرها به رئيس الهيئة المقتدر لحد الساعة. والمحاكمة وسيلة بيداغوجية لكي تتمثل الشعوب العربية فعليا حقيقة العدالة، ولكي يتمثل الحكام العرب أي منقلب سينقلبون لكل من استمر في نهجه. وهي محاكمة لكي يتشافى شعب كامل من آثار السياط والاغتصاب والقتل وإهدار الكرامة.
ليس لأن صدام واجه أمريكا ننسى أنه كان مجرما حتى النخاع.
الطيب حمضي

السلاح‮ ‬والديمقراطية

على امتداد العالم العربي والإسلامي كان حزب الله اللبناني يتمتع بتعاطف عارم وجماهيري لم يحرزه أي حزب آخر غيره.
فبالرغم من الاختلافات الدينية، والعقائدية والايديولوجية والسياسية، كان الجميع متعاطفا مع هذا الحزب ومعجبا بنضاليته. فالإسلاميون والاشتراكيون والشيوعيون والماركسيون والليبراليون والوسطيون وغيرهم كثير، لم يكن فيهم من يخفي إعجابه بحزب الله، كحزب مقاوم للاحتلال الإسرائيلي بجنوب لبنان. بصدقيته، بذكائه، بحنكة قيادته، بوطنيته، بتعاليه عن الأمور الصغيرة، بتمييزه بين الاستراتيجي والمرحلي... وكحركة مقاومة، كان حزب الله محط إجماع أو يكاد.
ترى ما الذي يجعل ماركسيا من المغرب يُعجب بحزب، خلفيته دينية أصولية؟ بالتأكيد ليست الخلفية الدينية!
ما كان يجعل الشارع العربي متعاطفا مع حزب الله هو كون هذا الأخير رمزا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولم يكن أحد يهتم، لا بخلفيته الدينية، ولا ببرنامجه السياسي ولا بأفكاره التي يريد تطبيقها داخل المجتمع اللبناني.
والمفارقة كذلك أن أهم وأشهر وأكثر حزب أصولي عربي شهرة لم يكن أحد يعرف له موقفا من أمور الدنيا، الحجاب، الأبناك، الاختلاط، حقوق المرأة...
اليوم، حزب الله قوة سياسية مهمة داخل مجلس النواب اللبناني، يتحالف، يعارض، يهدد، ينسحب، يتراجع، يصوت، يقدم تعديلات، يحاور.... وهو في كل هذا لا يواجه إسرائيل، ولا يحرر الجنوب ولا مزارع شبعا، ولكن يساهم في إدارة شؤون البلاد اليومية من أسعار البنزين إلى سعر الفائدة إلى برنامج وزارة الصحة إلى محاربة الجريمة وغيرها. وهو بهذا المعنى حزب كباقي أحزاب الله (على وزن عباد الله!).
ما المشكلة؟
الأصوات التي يحصل عليها حزب الله هي خليط بين أصوات ناخبين يؤمنون بالخط السياسي والإيديولوجي لحزب الله ومقتنعون ببرنامجه الانتخابي وأصوات تعود لناخبين ـ وما أكثرهم ـ يصوتون لحزب الله، لأنه حزب مقاومة الاحتلال، وهي أصوات مهمة هدفها تشجيع حزب الله على الصعود أمام الآلة الإسرائيلية.
لكن المشكلة هي كون حزب الله، كحزب سياسي، يوظف هذه الأصوات كلها في تصريف مواقف سياسية، لا علاقة لها لا بالمقاومة ولا بالجنوب ولا بمزارع شبعا ولا بإسرائيل.
حزب الله كحزب مقاوم هو محط إجماع، ولكن كحزب سياسي له مواقفه الخاصة من التجديد للرئيس لحود، ومن العلاقة مع سوريا، ومن أسعار الفائدة. هذا موضوع ثان ولا يمكن أن يكون محط إجماع.
فهل إذا اختلفنا مع حزب الله حول موقف سياسي معين، معنى ذلك أننا ضد المقاومة؟ أبدا! وهل إذا أيدنا حزب الله في عمليات المقاومة معنى ذلك أننا نؤيد موقفه من حكومة السنيورة أو من ارتداء الحجاب؟ أبدا! ولكن، كون حزب الله الذي يمارس المقاومة بقوة السلاح، وينظم جيشا في صفوفه، ويستعرض قوته العسكرية في استعراضات كبرى، ويتلقى دعما ماليا وعسكريا خارجيا من أجل المقاومة، ويتلقى التبرعات لدعم المقاومة، هو نفسه الحزب السياسي الذي يمارس السياسة العادية اليومية بنفس الأصوات، هذه الازدواجية من شأنها أن تشكل خطرا على حزب الله وعلى لبنان وعلى الديمقراطية نفسها. إذ لا يعقل أن يوظف حزب ما أصوات الناخبين المحصل عليها لدعم قضية ما من أجل تحويرها لخدمة قضايا أخرى.
إن على حزب الله أن يتحول إلى حزب سياسي، أو يتخلى عن السياسة لعالم المقاومة، أو يفرق بين الجناح السياسي كحزب عاد ويترك لفيالقه العسكرية أن تنظم نفسها في إطار منفصل عن السياسي. أنا لا أدعو حزب الله إلى التحول إلى حزب سياسي وإلقاء السلاح. هذا قرار بيد الشعب اللبناني وحده. فالمقاومة لازال لها دور بلبنان ضد عدو إسرائيلي على مشارف البلد. ولكن هذا التداخل بين المقاومة والعمل السياسي داخل المؤسسات أمده قصير. وإذا لم يبادر حزب الله إلى فك الارتباط بين العمل السياسي والعمل المسلح، فإن من شأن ذلك، عاجلا أم آجلا، أن يؤدي إلى خلق مطبات وعقد كثيرة في الحياة السياسية اللبنانية. فلا المقاومة ستبقى محط إجماع ولا حزب الله السياسي ستكون له مشروعية ديمقراطية.
تحدثت عن حزب الله، لأنه الظاهرة الأكثر تمثيلية، لكن نفس الأمر ينسحب على حركة حماس بفلسطين. فالفلسطيني الذي يصوت لحماس، كرمز للمقاومة، لا يدرك أنه يصوت لحزب سياسي له مواقف عقائدية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ربما مخالفة تماما لمواقف الناخب الذي منحه صوته.
الأمر هنا لا يتعلق بدعوة للتخلي عن السلاح، بل لترك السلاح والمقاومة بأيدي المقاومين المسلحين الذين يقاومون باسم الشعب كله ونيابة عن الشعب كله، وممارسة السياسة كباقي السياسيين. وهكذا تبقى المقاومة للوطن كله والسياسة لكل حزب بما استطاع.
أما توظيف هذه بتلك، فهو أقرب إلى الاحتيال على إرادة الناخبين. وهو ما لا نرضاه لحركات مقاومة باسلة وصادقة، حتى وإن اختلفنا معها في السياسة، وأحيانا حتى في طرق المقاومة.

الطيب حمضي
نشر بأسبوعية "الصحيفة " نهاية ابريل 2006

السلطة‮ ‬وملذاتها

قبل أن يموت الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كان يهيأ لخلافته إبنه باسل الأسد. لكن الأخير توفي في حادث، اضطر معه الأب للمناداة على الإبن الثاني (بشار الأسد) الذي كان يتابع دراسته بطب العيون ببريطانيا للعودة إلى سوريا. وحين توفي الأسد الأب تم تغيير فصول الدستور حتى يتمكن بشار من الترشح ـ وحيدا ـ للرئاسة ويفوز بها وهو ما كان.
ولأن الدستور المصري لم يكن يسمح للرئيس مبارك بالترشح مرة أخرى للرئاسة فقد تم تغيير بنود الدستور وأصبح الرجل رئيسا ''منتخبا'' إلى ما شاء الله. ولأنه لن يطمئن على مستقبل مصر إلا إذا حكمها أحد من صلبه ـ مادام باقي الشعب غير صالح لمثل هذه المهام التطوعية ـ فإنه يهيىء الطريق ليخلفه إبنه جمال مبارك في سدة الرئاسة. قد يصبح الشاب جمال رئيسا لمصر مباشرة بعد أبيه، أو يصبح في إطار سيناريو معد سلفا نائبا لرئيس الجمهورية بعد وفاة والده لمدة قصيرة ثم رئيسا لجمهورية مصر العربية. وتتداول الأوساط السياسية الدولية إسم اللواء عمر سليمان ـ رئيس جهاز المخابرات المصري ـ ليقوم بدور الكمبارس في رئاسة الدولة حين شغور المنصب.
السيناريو نفسه في الشقيقة ليبيا التي يحكمها منذ ما ينيف على الأربعة عقود الأخ القائد العقيد معمر القذافي. فرغم أن الأخ القذافي لا يعتبر نفسه رئيس الدولة ولا حاكمها، فهو الذي يتخذ كل القرارات ويمثل البلاد في كل الاجتماعات ويفاوض أقرانه رؤساء الدول. وحتى لا يقول عنه أحد إنه متشبث بالسلطة فهو يعتبر منصبه قائدا للثورة. وهو يهيىء إبنه المصون لخلافته في ''المهمة الثورية'' التي تطوع لها هو شخصيا منذ حوالي أربعين سنة بتفان وإخلاص ونكران الشعب والديمقراطية، عفوا ونكران الذات!!
وفي كوبا، بعد عمر طويل إن شاء الله سيخلف كاسترو الأخ الرفيق فيديل كاسترو الرئيس المبجل لكوبا العظيمة. فالرفيق فيديل كاسترو ملهم الجماهير الذي يقارب الثمانين سنة من عمره سيترك كخليفة له أخاه كاسترو القائد في الجيش الكوبي والذي لا يقل عمره عن الرفيق فيديل إلا بسنوات قليلة.
وفي تونس الخضراء ''قرر'' الشعب التونسي الشقيق أن يغير دستور بلاده حتى يتمكن ''الزين'' من أن يتقدم للترشيح. وفعلا تقدم الرئيس رئيس العابدين بن علي وفاز بالرئاسة. وإذا أطال الله في عمره حتى نهاية الولاية الحالية فإن الشعب التونسي الشقيق سيقوم بتغيير الدستور من جديد ليتيح للرئيس بن علي الترشح مرة أخرى والفوز مرة أخرى والحكم مرة أخرى إلى أن يتذكره الله سبحانه وتعالى أو يتذكره عسكري آخر على ظهر دبابة، أو من خلال شهادة طبية كما فعل الزين مع الحبيب بورقيبة.
وفي اليمن الحبيب، عبر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح السنة الفارطة عن نيته عدم الترشح للرئاسة مرة جديدة. ومباشرة بعد إعلانه عن هذه ''النية'' انطلقت حملة اليمن الشقيق من الحزب الحاكم والإعلام الحاكم والمصالح الحاكمة ترفض هذه النية وتطالب الصالح بالتراجع عن نيته والترشح للرئاسة والظفر بها مجددا.
إن اليمن الشقيق في حاجة لرجل مثله، بل العالم العربي في حاجة لرجل من عياره، ولنقل العالم الإسلامي والعالم كله في حاجة لخبرة رجل وحكمة سياسي مثل علي عبد الله صالح أطال الله في حكمه!
الفرق بين حكامنا نحن وحكام الشعوب الغربية هو أن هؤلاء الأخيرين مثل الأجهزة الكهربائية كلما تقادموا كليا أصبحوا متجاوزين وغير صالحين وأضحوا مستهلكين وعطاؤهم يتضائل. لذلك حتى القوانين عندهم تمنع استمرار المسؤولين على رأس الدولة لفترات طويلة.
بينما حكامنا نحن، مثلهم مثل الزرابي الإيراني، كلما تقادمت كلما زادت قيمتها.
وكلما زادت خبرتهم أضحى لا غنى عنهم. الفرق بينهم وبين الزرابي أن هذه الأخيرة تزداد قيمة كلما مشينا عليها ودسنا عليها، بينما حكامنا يزدادون أهمية كلما داسوا علينا.
هذا في الخارج، حيث انتشرت موضة ''الجمهوريات الملكية''. أما عندنا في المغرب فالقصة نفسها ومسؤولونا هم الآخرون زرابي فاسية ورباطية ومراكشية وأطلسية.
السيد المحجوب بن الصديق أمين عام للاتحاد المغربي للشغل منذ 50 سنة. والأخ نوبير الأموي كاتب عام للكونفدرالية منذ حوالي 30 سنة. والأخ عبد الرزاق أفيلال لم يتزحزح عن قمة نقابته إلا بعد تسونامي هز عرشه. والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية والأحرار والحركة الوطنية الشعبية و... و...
الطيب حمضي

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi