نهاية المؤسسات

يبدو لي أننا وصلنا إلى نهاية مرحلة معينة من تاريخ العمل الانتخابي والمؤسساتي ببلادنا، ولم يعد هناك بد من تغيير طرق العمل.

المؤسسات بالمغرب كان مرسوما لها دور شكلي عليها تأديته. "الدولة" أي الملك الراحل ومحيطه "يعرفون" دقائق حاجيات المغرب والمغاربة ويتصرفون وفق ما يعتقدون أنه في مصلحة المغرب. وأحزاب وهيئات "لا تعرف" شيئا، وليس من حقها أن تقرر، ولكنها "شر لا بد منه" للحفاظ على الصورة الديمقراطية. لذلك، أوكلت لها الدولة دور"تأطير المواطنين وتمثيلهم"، ولكن من خلال مؤسسات مشلولة.

هذه التجربة لم تكن كلها فراغا أو سلبية، بل كانت لها جوانب إيجابية في إشراك المواطن في التفكير وتدبير الشأن العام والمحلي ولو جزئيا. بل كانت تجربة متقدمة مقارنة بعدة دول أخرى.

في نهاية السبعينيات، لم يبق للدولة من إمكانيات ترضي بها الفئات الاجتماعية الأكثر قوة على الاحتجاج والمطالبة. فكانت الانتخابات وسيلة أخرى لمعرفة وتشخيص وتحديد "زعماء" الاحتجاج والنقد والمطالبة، وإشراكهم في تدبير الشأن العام وإتاحة الفرص أمامهم لتحقيق مطالبهم الشخصية أولا. كان ذلك مساعدا على إخماد الاحتجاجات أو على الأقل التلطيف منها.

أضحت المؤسسات المنتخبة وسيلة للترقي الاجتماعي، سواء في البرلمان أو المجالس أو الغرف المهنية... وأصبحت هذه "المناصب" وسيلة للترقي الاجتماعي وتحقيق المطالب الشخصية والعائلية، بجانب المطالب العامة بالنسبة للذين يفكرون بعض الشيء في الشأن العام. هكذا، أضحت السياسة نفسها وسيلة للاغتناء والحصول على السلطة والوجاهة لقضاء المآرب وتحقيق البرنامج الشخصي للترقي.

ما إن يصبح الإنسان وزيرا حتى تتغير حياته رأسا على عقب: أجور، تعويضات، صفقات، تقاعد،... الأمر نفسه بالنسبة إلى البرلماني وحتى المنتخب المحلي.

لذلك، أصبحت الانتخابات محطة مهمة داخل الأحزاب للتقاتل والانشقاقات والانسحابات ولكل الحروب، للظفر بالانتداب الحزبي لهذه المهمة أو تلك، لهذه المؤسسة أو تلك.

أصبحت داخل الأحزاب "وحوش انتخابية" مستعدة لتحطيم كل ما يوجد أمامها للظفر بمنصب سياسي يتم توظيفه لحل المشاكل الشخصية والعائلية، حتى أضحى أهم وأسهل استثمار في المغرب هو العمل السياسي. بدون مخاطر ولا رأس مال، ولا ضرائب ولا تعقيدات. منصب سياسي يجلب المال. لا غرو إذن أن نلاحظ كل ما يقع داخل الأحزاب من تقاتل وترحال ومن دسائس للمرور إلى الضفة الأخرى.

الدولة جعلت من الانتخابات فرصة "لإنقاذ الذات" وفرصة للظفر بالسلطة والجاه والمال، وتركت الأحزاب تغلي من الداخل وتتفتت.

اليوم، أصبحت الأحزاب لا تجد حتى من تضعه باللائحة الانتخابية، إذ ما أن يتقرر من سيكون وكيل اللائحة، حتى ينفض "المناضلون" من حوله، إما يرحلون إلى أحزاب ولوائح أخرى، وإما يتخلون عن أحزابهم، وإما يمارسون دعاية مضادة لحزبهم. وهكذا، يضطر وكيل اللائحة إلى الاستعانة بعائلته وأصدقائه ومعارفه لإتمام اللائحة. بل هناك سماسرة أصبحوا يتجولون وفي جيوبهم ملفات متكاملة لعشرات المواطنين يسمسرون فيها لبيعها لوكلاء اللوائح لإتمام لوائحهم!!

مرشحون يغيرون أحزابهم بمجرد نجاحهم. "مناضلون" يغيرون انتماءهم بمجرد عدم اختيارهم في الصفوف الأولى للوائح. كل هذا العبث وغيره من أهم أسباب اللامبالاة التي يظهرها المواطنون اتجاه الانتخابات والمؤسسات والأحزاب والعمل السياسي.

حين تلقي نظرة على اللوائح، تقتنع تماما أنه فعلا لا جدوى من انتخابات مثل هذه.

ومع ذلك، فإن لا تنمية بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون مشاركة، ولا مشاركة بدون انتخابات وأحزاب.

والأحزاب القائمة ليست دورا للمفسدين وضعاف النفوس، ولكن "الممارسة السياسية الربوية" تجعل هذه الكائنات الانتخابية هي الطاغية والأكثر حضورا. هذه الآفة لا يمكن إصلاحها بقوانين أكثر تشددا، أو بمقاييس متشددة أو بالطرد والتوقيف والتخوين. لا يمكن القضاء على هذه الآفة إذا لم نجعل من السياسة خدمة عامة نبيلة مجردة من الربح المادي واللصوصية والتسلق.

يجب تغيير القوانين والإجراءات التي تؤمن الامتيازات المحصل عليها من خلال العمل السياسي. يجب تفعيل آليات المراقبة والمحاكمة للذين يتحملون مسؤوليات وانتدابات انتخابية.

يوم تصبح السياسة عملا تطوعيا لخدمة الشأن العام، ستهدأ الحياة الحزبية، سيلتحق بها الفاعلون الحقيقيون، وسيتقدمون للانتخابات، وسيذهب المواطنون إلى صناديق الاقتراع للتصالح مع المؤسسات، وستعمل هذه الأخيرة لصالح المنتخبين. أما إذا بقيت المؤسسات فرصا للاغتناء والترقي، فإن الساحة الانتخابية لن تجلب أكثر من "الكائنات" الانتخابية التي نرى حاليا، ولن يفلح الشرفاء الذين رموا بأنفسهم في أتون هذه المعمعة في إقناع الناخبين بشرف المعركة، لأن الفساد سيتغلب على معظمهم.

آن لمثل هذه المؤسسات أن تنتهي وأن يبدأ المغرب تجربة ديمقراطية حقيقية تساعده على حل مشاكله ومشاكل مواطنيه...

الطيب حمضي

11 يونيو 2009

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

بعد السلام والتحية، أشكرك على هذه المقالة التي توضح المشهد السياسي بالمغرب ومدى هشاشته.
منذ الاستقلال تبنت الدولة المغربية التعددية الحزبية، لكن هذه التعددية لم تكن تعددية سياسية حقة بل كانت تعددية من أجل إضعاف الأحزاب القوية حيت تناسلت أحزاب إدارية، تم هناك الانشقاقات التي لم تكن نتيجة لاختلاف في الإيديولوجيات والأفكار وإنما هي نتيجة صراعات حول الزعامات داخل الأحزاب بالإضافة إلى ظاهرة الترحال من حزب إلى أخر فشوهت هذه الظاهرة المشهد السياسي.
إذا قمنا بقراءة للأسماء التي تمثل سواء المجالس المنتخبة أو البرلمانيين يتضح أنه أضحت هناك أسماءا معروفة تحتكر الساحة الانتخابية فهذه العائلات تقوى نفوذها المالي بشكل كبير لأنها استغلت السياسة في تنمية ثرواتها ،والحملات الانتخابية التي يعيشها المغرب الآن وما تعرفه من مناوشات وصراعات لخير دليل على تهافت وتسابق هؤلاء المفسدين على المراكز لحماية مصالحهم وذويهم بينما مصالح المواطنين فهي في مهب الريح لأن التفكير والتدبير الشخصي طغى على العمل الجماعي والمؤسساتي.
Fikri05

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi