الحقيقة‮... ‬والتنمية

لم يسمح لي الوقت للاطلاع بعد على التقرير الشامل الصادر عن هيأة الإنصاف والمصالحة ولا على تعليقات الاختصاصيين وهيآت حقوق الإنسان المغربية والدولية، ولا على التقرير النهائي حول التنمية البشرية الذي لم ينشر كاملا بعد. لكن ملخصات التقريرين تعطي عناصر أولية للتفكير والملاحظة.
في تقديري الشخصي الأولي، إن عمل اللجنتين هو عمل إيجابي وإن كان ناقصا. على الأقل، لم يدع أي من الفريقين أنه وصل الكمال وأن الملف طوي كما كان يحدث في السابق. ومن أهم حسنات عمل هيأة المصالحة أنها وضعت تقريرا محددا بمعطيات محددة أسود على أبيض. ويمكن لهذا التقرير أن يكون موضوع إغناء أو نقد أو إثراء، وأساسا لمنطلقات وإسقاطات حقوقية وسياسية وقانونية وغيرها.
لقد نظمت الهيأة جلسات استماع عمومية كانت من الأهمية بمكان رغم ما شابها من نواقص. فنحن لسنا بصدد إقبار نظام سياسي بشكل كامل وبعث نظام سياسي جديد، بقدر ما يتعلق الأمر بمحاولة توليد ممارسة سياسية جديدة من صُلب نظام سياسي مستمر، وإن كان ''شكل ثاني''. هنا، دقة المرحلة وخصوصية التجربة. وإلا سنكون مطالبين بتعليق كل شيء حتى تغيير النظام السياسي نفسه!
أهمية جلسات الاستماع أنها شوهدت من طرف الضحايا وعائلاتهم ومعارفهم وجيرانهم حتى يرد لهم الاعتبار، وشوهدت من طرف الجلادين وعائلاتهم (...) وشوهدت من طرف ''رجال القضاء'' الذين تواطؤوا مع الجلادين، وشوهدت خصوصا ـ وهذا هو المهم ـ من طرف المسؤولين الأمنيين والقضائيين الحاليين، الشباب والحديثي العهد بالمسؤولية. ولاشك أنهم، بعد مشاهدة وسماع الشهادات، لا يمكنهم مطلقا الاطمئنان إلى أي حماية وهمية لأي جرائم قد يطلب منهم ارتكابها الآن أو مستقبلا...
وأهمية عمل الهيأة أنها وضعت أمامنا تقريرا بمعطيات من السهل تكذيبها إن لم تكن صادقة، أو إغناؤها إن كانت ناقصة، أو تثبيتها إن كانت كاملة. وهي لم تقم بما قام به إدريس البصري في العهد السابق حين أجبر ممثلي كل الأحزاب والنقابات وغيرها الممثلة آنذاك بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان على توقيع التزام بعدم فتح ملف الاختفاءات وغيرها بعد نشر اللائحة إياها والتي لم تكن تضم حتى أشهر المختفين المهدي بن بركة!!!
اليوم، نحن أمام تقرير يدعو إلى استكمال البحث، ويقدم توصيات مهمة لتفادي تكرار ما جرى. وعلى الدولة والمجتمع تحمل المسؤوليات لتبيان ما خفي لحد الآن. هناك الأحزاب والبرلمان والقضاء والهيأة الحقوقية والرأي العام والضحايا. هل نحن في حاجة إلى لجن أخرى؟
علينا أن نسرع بدفن هذا الماضي الأليم بما يرد الاعتبار للضحايا وللمجتمع وبما يضمن عدم تكرار ما جرى. وفي هذا المجال، هناك تجارب دولية ومقاييس كونية. يجب الاستمرار في الاستلهام منها. ومن هنا، فإن التوصيات الدستورية والقانونية للهيأة يجب أن تكون محل نقاش وإغناء من أجل تفعيلها وإثرائها. من هنا كذلك، أهمية ضرورة أن تقدم الدولة اعتذارا واضحا عما جرى. لا يهمني كثيرا من يقدم الاعتذار، بقدر ما يهمني أن يكون هناك اعتذار باسم الدولة. ومن جهة أخرى، فإن طي هذا الملف لن يستقيم تماما دون إعفاء ـ على الأقل ـ المسؤولين عمَّا جرى من بين الذين لازالوا يمارسون مهامهم من أمنيين وسياسيين وغيرهم. وحتى أكون صريحا، فإني أدعو إلى إزاحة المسؤولين المنفذين لتلك الفظاعات، والأمر نفسه بالنسبة لقيادات الأحزاب السياسية التي لم تحرك ساكنا أبدا أمام فظاعات ما كانت تعرفه عن معتقلات مثل تازمامارت وظروف اختطاف واحتجاز عائلة أوفقير ومنهم أطفال. وهنا، يجب أن نتذكر أن بن سعيد آيت يدر هو الذي كانت له الجرأة لفضح معتقل تازمامارت، صحيح أن بعض ـ وأقول بعض ـ تلك الأحزاب كانت تتحدث عن معتقليها وعن معتقلين سياسيين وآخرين، ولكنها لم تكن مطلقا تحرك ساكنا أمام الحالات الأخرى، رغم أن الانتهاكات الجسيمة كانت واحدة بل أفظع! إن على هؤلاء المتواطئين بالصمت أن ينسحبوا هم الآخرين في هدوء.
ورغم كل ذلك، فإني من دعاة التوجه نحو المستقبل ودفن هذا الماضي (كما يليق). نحن في هذا المضمار نحقق بعض الخطوات وإن كانت بطيئة وإن كانت متعثرة، لكننا نتحرك. لكن الخطر الذي يتربص بنا اليوم أكثر هو الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمواطن المغربي. في هذا المجال، هناك قنابل موقوتة لا يهتم بها أحد أو تقريبا: لا الدولة ولا الفاعلون السياسيون. وأخشى أن نتحول إلى ''سوبر خبراء'' في ''السياسة'' وفاقدي البصر والبوصلة في الاقتصاد والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، علما أن المواطن ينتظرنا هنا بالذات والآن وليس غدا!!
أملي أن لا يتركز النقاش حول الماضي وحده وحول تقرير هيأة الحقيقة والمصالحة ونهمل التقرير الثاني. فللأول أهميته، لكن إذا لم نهتم بما يعانيه شعبنا وما ينتظرنا فلا حاجة لنا ''بخبراء الماضي'' مادام المستقبل عدم!
الحقيقة لا أهمية لها إذا لم ترمم الذات لتجعلها قوية ومعافاة لمواجهة المستقبل.n

الطيب حمضي


ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi