الحداثة القۤبۤلية !

أفهم جيدا أننا في مرحلة انتقال على عدة مستويات: انتقال ديمقراطي، سياسي، مجتمعي، مؤسساتي. ولذلك، أجد العذر لعدد من مظاهر "الفوضى" التي تؤطر حياتنا اليومية التي تأوي كل المتناقضات. هناك حوالي أربعين حزبا سياسيا بالبلاد، الستة أو السبعة الأوائل متقاربة الحجم الانتخابي، والباقي بعيد عن الكوكبة. أكيد، ليس هناك أربعون برنامجا مجتمعيا يختلف بعضها عن الآخر، ولكن هذا التعدد يفسره عدم تجذر المؤسسة الحزبية كمؤسسة حديثة وحداثية وديمقراطية، فهي مؤسسة "عائلية" نوعا ما أو شبه زاوية. وعلى أية حال، فسواء كانت هناك عشرة أحزاب أو سبعون حزبا، فالناخب عموما في الديمقراطيات السليمة يحصر اختياره بين قوتين إلى ثلاث قوى سياسية كبيرة. وهكذا، نكون أمام وجود تضخم في الأعداد على مستوى القانون، بينما في الواقع، المشكل غير مطروح.
ما لا أفهمه هو أن يكون عندنا كل هذا الكم من النقابات! ففي نفس القطاع، نجد نقابة تدعو إلى الإضراب يوم الثلاثاء، وأخرى يوم الأربعاء وثالثة يوم الخميس، وهكذا… والموظفون طبعا يضربون مع كل النقابات، مادام الأجر مضمونا من جيوب الشعب والراحة مضمونة بفضل الإضراب!
لاحظوا أن هذه "الفوضى النقابية" لا توجد إلا بالقطاع العمومي، أما بالقطاع الخاص والقطاع الفلاحي، فداخل كل مؤسسة لا تجد إلا نقابة أو اثنتين، إذ العمال يعرفون أن لهم نفس المشاكل، وهذه المشاكل لها نفس الحلول، وهذه الحلول لا يمكن تحقيقها إلا بوسيلة واحدة: وحدتهم. هل رجال التعليم أو الصحة مثلا غير مدركين لهذه الحقيقة البدائية؟ المسألة ليست مسألة إدراك. الأمر يتعلق بممارسة خاطئة عاشت معنا ولازالت مستمرة. الأمر يتعلق بكوننا لازلنا لم ننجز الانتقال نحو العمل داخل المؤسسات، وليس تحت إمرة الأشخاص، الدفاع عن القيم وليس عن الذات، العمل في إطارات ديمقراطية مفتوحة وليس غيطوهات مغلقة. كل مجموعة تجانست إنسانيا تؤسس حزبا وتضع له أهدافا وقوانين، ثم تؤسس إطارا نقابيا، وتصدر جريدة ناطقة باسم الهيئة، تؤسس منظمة شبابية وتربوية موازية للحزب ومنظمة نسائية تابعة للحزب وأحيانا منظمة حقوقية كذلك!! الشباب، مثلا، إذا كانت له نفس المشاكل، فقد تختلف المقاربات لحلولها بين اليمين واليسار، لكن هل معنى ذلك أن يكون لكل حزب منظمته الخاصة، لا وزن لها ولا حضور لها وسط ملايين الشباب الخارج عن كل تأطير؟! هل النساء تواجه مشاكل تختلف حلولها بعدد الأحزاب القائمة؟! هل الموظفون والعمال والطلبة لهم مشاكل تختلف حلولها بعدد الأحزاب، حتى تؤسس هذه الأخيرة نقابات بعدد الأحزاب؟ في الميدان الحزبي، هناك تواريخ للامتحان. الانتخابات، وعندها يعز المرء أو يهان. ولكن في الميدان النقابي، هناك مشاكل يومية يستحيل مواجهتها بحكمة وفعالية مع كل هذه الفوضى الحاصلة في مجال العمل النقابي، وقس على ذلك في قضايا الشباب والنساء....
جرت العادة عندنا أن يدخل المرء حزبا سياسيا أو نقابة وكأنه دخل زاوية لها شيخها هو الزعيم ومريدوها وهم الأعضاء. إذا غادر العضو الجماعة، اتُهِم بالخيانة. وإذا حاسب الزعيم، اتُهم بالعمالة. الانتماء لحزب أو نقابة هو انتماء لفكرة يمكن أن تتغير في أي لحظة، وهذا ليس عيبا. العيب هو أن لا يتغير المسؤولون عن الأحزاب والنقابات وكأنهم فرضُ عيْن على هيآتهم. العيب هو أن يتعامل الفرد مع الحزب أو النقابة وكأنها مؤسسة لاهُوتية. العيب هو أن يدخل الإنسان حزبا أو نقابة للدفاع عن فكرة وعن مبدأ، فتضيع الفكرة ويضيع المبدأ في زحمة الدفاع عن الأشخاص وعن الذات.
الأحزاب والنقابات مؤسسات حداثية لتأطير المجتمع وتطويره، وليست قبائل. فلا يمكن الدفاع عن قيم الحداثة بوسائل وعقليات قبۤلية.

الطيب حمضي
9 mai 2008

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi