إدريس‮ ‬البصري‮: ‬الرأي‮ ‬العام‮ ‬كرهينة

عاد قبل أسابيع السيد إدريس البصري، وزير الداخلية المغربي الأسبق، لإعطاء الاستجوابات الصحافية لعدد من المنابر، بعد أن كان قرر من تلقاء ذاته الركون إلى الصمت بعد حصوله على جواز السفر.
تابعت تصريحاته باهتمام، مثل كافة المهتمين بالشأن السياسي ببلادنا، باعتبارها صادرة عن رجل بقي على رأس وزارة الداخلية ثلاثة عقود من الزمن، وكان اليد اليمنى للراحل الحسن الثاني و''المنفذ الأمين'' لسياسة العهد القديم بل أحد أهم مهندسيها. هذه التصريحات كلها على منوال واحد، تتطرق لنفس القضايا تقريبا وفيها نفس المقاربة ويحكمها نفس المنطق وتصدر نفس الأحكام :حقوق إدريس البصري في الجواز ومستحقات الأجرة ، قضية الصحراء، أحداث 16 ماي، الانتخابات بالمغرب، حقوق الإنسان، محيط الملك، العلاقة بالحسن الثاني ومحمد السادس والنخبة السياسية المغربية). هذه عموما هي المواضيع التي يتناولها إدريس البصري في كل خرجاته الإعلامية مع توظيف توقيت الخرجات، ومكانها، والصور المصاحبة لها.

خرجات إعلامية مخدومة...
إدريس البصري رجل عايش دقائق السياسة المغربية لعقود من الزمن واضطلع على تفاصيلها وساهم في صنع جزء كبير منها، كما اضطلع بحكم الوزارة التي تولى أمورها على دقائق الحياة الداخلية للأحزاب المغربية. وهو بهذا المعنى خزان كبير لأسرار المغرب الداخلية والخارجية والدبلوماسية. ومن جهة أخرى، فإن الرجل كان صانعا للقرارات وللأحداث ومحركا أساسيا لدواليب السياسة بالبلاد وقريبا جدا من الملك الراحل. وهو ـ أو على الأقل هذا رأيي الشخصي ـ من أكفء الوزراء الذين عرفهم المغرب. وليس معنى ذلك أني اعتبر ما فعل إيجابيا. على العكس تماما، إني أكاد أحمله المسؤولية في كل الجرائم التي ارتكبت في حق العباد والبلاد خلال عهده. ومنها ما يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية. ولكن مع ذلك، فإن هذا لا يمنع من الاعتراف بكفاءته وخبرته وذكائه في تصريف الأمور كما كان يراها ويُطلب منه القيام بها.
رجل بهذا الوزن خرج إلى فرنسا بعد أن أقيل من مهامه وتعرض لبعض المضايقات دون أن يتحدث عنها أحد. استقر بفرنسا ولم ينطق بكلمة، إلى أن تم رفض تجديد جواز سفره واعتقال العفورة والسليماني. وهما من أهم المقربين إليه وحاشيته. حين أحس إدريس البصري أنه أضحى مستهدفا، قرر الخروج عن صمته وإعطاء بعض التصريحات. الرجل إذن لم يقرر من تلقاء ذاته أن يكتب عن تجربته، أو يتحدث عن ماضيه، أو يعطي بعض التفاصيل والحقائق عن فترة توليه المسؤولية كما يفعل غيره بالبلدان الديمقراطية، أو غيرها. تصريحاته لا هي بشهادة ولاهي تنوير للرأي العام بقدر ما هي سلاح للدفاع عن الذات ومهاجمة خصومه. لذلك فإن تصريحاته كلها منمطة، وتهديد بالكشف عن المستور والإيحاء بالقدرة على الإيذاء، وتلميع الذات...
بعد تدخل الملك محمد السادس واستعادة البصري لجواز سفره، أصيب إدريس البصري ''بإمساك'' صحافي وتوارى خلف الأنظار. ثم ما لبث أن عاد مؤخرا للصفحات الأولى بعد أن أخذت محاكمة العفورة والسليماني منحى غير ما كان ينتظره البصري .وإن كنت شخصيا أكاد أجزم أن هذه القضية ستنتهي إلى لا شيء!! ليس بسبب براءة المتهمين، ولكن لأن كل ملفات الفساد ببلادنا لا تفتح إلا لتصفية الحسابات وتغلق قبل أن تصل حيث لا يجب أن تصل

إدريس البصري وحقوق الإنسان
حين يتعلق الأمر بشخصه، فإن إدريس البصري يتسلح بالقوانين وبالحقوق كما هي منصوص عليها، بل كما هي متعارف عليها دوليا: حقه في الأجر الذي حُرِم منه وحقه في تجديد جواز سفره وهو في باريس. حتى عندما تم إخراج المذكرة التي كان هو الذي وقعها أيام استوزاره والتي تمنع تجديد الجوازات لمن هم في خانته إلا داخل المغرب (لأسباب أمنية/ قمعية)، حتى وهو في مواجهة مذكرته، دفع إدريس البصري -عن حق- بحقه في تجديد جوازه، مذكرا بسمو القوانين على المذكرات، بل بسمو القوانين الدولية وكونية حقوق الإنسان على القوانين الداخلية نفسها ! في الدفاع عن نفسه، يتشبث إدريس البصري بحقوق الإنسان وبكونيتها وبمفاهيم دولة الحق والقانون.
لكن حين ينتقل إدريس البصري إلى الحديث عن الانتهاكات المختلفة والجسيمة لحقوق الإنسان في عهده وتحت إمرته، فإنه يفسر ذلك بشيء بسيط، خفيف، كان ضروريا في مواجهة أناس يريدون قلب النظام، أو ضروريا لأن المغرب كان في فترة بناء المؤسسات!! وكأن المؤسسات لا تبنى إلا إذا اغتيل مئات المغاربة، وسجن الآلاف وقطعت الأرزاق والأعناق!! حين يتعلق الأمر بالحديث عن مسؤولية البصري في ما جرى ببلادنا من انتهاكات، فإنه يدوس حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا ويدوس الدستور ويدوس القوانين المغربية. فقط لأن إدريس البصري يفسر ذلك ثانويا أمام ما كان النظام يريده! وهذا معناه الكيل بمكيالين: أناس يستحقون أن تصان حقوقهم وهم: إدريس البصري وأناس لا حق لهم في التمتع بحقوقهم إلا إذا وافق عليها إدريس البصري ولم تتعارض مع ما يفكر فيه: وهؤلاء هم: كل الشعب المغربي!!
شخصيا، أطالب بأن يتمتع إدريس البصري بكل حقوقه كاملة وغير ناقصة بما في ذلك محاكمة عادلة (قضائية أو رمزية) ليجيب عن الاتهامات الموجهة له في خرق حقوق الإنسان، وتزوير الانتخابات والتغطية على الفساد وغيرها مما كان يشكل سمة أساسية لفترة تحمله المسؤولية.
يكفي مراجعة تصريحاته للوقوف على الازدراء والاحتقار الذي يتحدث به البصري عن ضحايا حقوق الإنسان في عهده. هذا معناه أن إدريس البصري المواطن، الأستاذ الجامعي، المقيم بباريس، المضطهد من طرف خصومه، البعيد عن المسؤولية، هذا البصري لازال يعتبر لحد اليوم أن ما كان يقوم به هو عمل عاد وليس جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان ! كيف يمكن لرجل له مثل هذا التفكير أن ينصب نفسه اليوم خبيرا يعطي النصح في مجال حقوق الإنسان؟ إذا كان هو نفسه غير مقتنع بحقوق الإنسان وبفلسفتها وهو يرى أن هناك من يستحقها كلها ومن يستحق بعضها أو جزءا منها أو لا شيء... أضعف الإيمان ما يمكن النصح به هو أن يراجع صاحب مثل هذه الأفكار مفاهيم حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون كمتعلم لعله يدرك هول الجرائم التي حدثت تحت إمرته وبعدها قد يكون مؤهلا لإعطاء آراء وخبرة أو نصائح في هذا المجال...

قضية الصحراء
أساس المواقف الحالية لإدريس البصري من قضية الصحراء من خلال تصريحاته طبعا هو موقفه الرافض للحل السياسي. وهو موقف يعلله بمنطق سياسي سليم.
لكن هذا الموقف تغير لدى البصري، أو على الأقل لنقل تغيرت أسبابه، ثم في آخر تصريح له مال تماما للمطالبة بالاستفتاء.
في البداية، كان المغرب يتحدث عن حكم ذاتي لمرحلة أولى يتبعها استفتاء بعد خمس سنوات. وكانت المفاوضات تدور حول السلط المخولة للحكم الذاتي والهيئة الناخبة. وهنا، البصري كان هو المفاوض حين كان وزيرا. رفض هذا السيناريو وهو في فرنسا، لاعتبار أن الاستفتاء لن يصب إلا ضد مصلحة المغرب بسبب تجارب الاستفتاءات التي أشرفت عليها الأمم المتحدة وتفاصيل أخرى يعرفها البصري أكثر من غيره.. بعد ذلك، أصبح المغرب يتحدث عن حل سياسي متفاوض بشأنه ونهائي، أي التفاوض حول نوعية وحجم السلط المخولة للحكم الذاتي كحل نهائي غير متبوع بأي استفتاء. وهذا موقف عارضه كذلك إدريس البصري ومبرره أن حكما ذاتيا محليا في الصحراء سيكون بوابة لانفجار المغرب من خلال مطالبة جهات أخرى بنفس الحقوق (...) لكن في التصريحات الأخيرة أضحى البصري يطالب بإجراء الاستفتاء مع إمكانيتين: البقاء مع المغرب أو الانفصال. وهو يعرف نتائج ذلك. وهكذا، أصبح متبنيا لموقف جبهة البوليساريو والجزائر وبعيدا حتى عن مواقف دول كبرى، مثل إسبانيا، فرنسا والولايات المتحدة التي تتبنى الاستفتاء كمبدأ، ولكنها تبحث عن حلول تغني عن إجرائه.
يظهر بالواضح أن مواقف البصري فيها الكثير من منطق تصفية الحساب أكثر من الموقف المبدئي أو المبني على منطق سياسي متجانس.
فالبصري هو أحد المسؤولين الكبار لوصول ملف قضية الصحراء لما وصلت إليه اليوم بسبب سوء التدبير. لكن من حقه اليوم أن يغير تحليلاته ومقاربته ونظرته. لكن هل نصدق أنه غير حتى من موقفه من مغربية الصحراء أساسا ليس كحق تاريخي أو قانوني ولكن كمسلسل إجرائي لتثبيت ذلك الحق؟ ليس البصري وحده مسؤولا عما آل إليه الملف ولا هو ممنوع من تغيير تحليلاته. فالاستفتاء بعد حكم ذاتي معناه نهاية القضية، وحتى الحكم الذاتي لن يؤدي إلا لنفس النتيجة. لكن ألم يبق غير الاستفتاء بالانفصال أو مغربية الصحراء في هذه الظروف؟ إذا كان البصري متشبثا بمواقفه السابقة (والتي أرسل للسجون كل من عارضها) وكانت نيته صادقة سيدرك أن ما يقترحه الآن هو كذلك نهاية للقضية. هناك إمكانيات وبدائل أخرى، لا أود الخوض فيها الآن لأن باب الحوار العقلاني ليس مفتوحا بعد. وكخلاصة فإن البصري ساهم في قيادة الملف نحو الحافة وبعدها تراجع ويحاول إعطاء الملف دفعة إلى الأمام (تذكروا الحافة) بسبب صراعه مع محيط الملك كما يسمي هو صراعه مع البلاط.

محيط الملك
رأي إدريس البصري في محيط الملك: أناس ليست لهم خبرة، مبتدئون، ليست لهم الكفاءة لتدبير شؤون الدولة... هؤلاء هم خصومه.
هو يحب محمد السادس ويحترمه ويستصغر المحيطين به. يقول عن المعارضين للحسن الثاني سابقا إنهم عوضا عن إنتقاد الحسن الثاني كانوا ينتقدون البصري!
لست بصدد إصدار أحكام على هذا المحيط، ولكن يظهر واضحا أن حكم إدريس البصري يهم المحيط والمركز على السواء... ولكن البصري لا يقطع شعرة معاوية ولو أكاديميا أو من حيث التحليل السياسي الصرف، لأن الأمر لا يتعلق بانتقادات لتصحيح الاعوجاجات، ولكن لإظهار نقط الضعف واستعراض نقط قوته وهو المدرك أن ''الماكينة'' السياسية تدور وقد تجعله يوما ما في المحيط وآخرين بفرنسا !! أحكام القيمة التي يصدرها يحضر فيها الذاتي والمصالح أكثر ، وإن لم تكن كل أحكامه وتحليلاته بالضرورة مجانبة للصواب.

بن زكري، حرزني والوديع
في سياق هجومه على محيط محمد السادس، استهجن إدريس البصري أن يكون بنزكري وحرزني والوديع ''مرشدين'' للدولة وهم من كانوا يحاولون زعزعة أركان نظام الحكم أيام الحسن الثاني!!
اتخذ البصري من مناضلي اليسار أعداء له وأرسلهم للسجون لأنهم يريدون زعزعة النظام، وحين أصبحوا ''مرشدين'' -في نظره - للنظام الحالي لم يعجبوه كذلك؟! شخصيا أرى في ذلك نتيجة حتمية لللاعقاب الذي يستفيد منه البصري وغيره ممن يرون اليوم ضحاياهم ولا يطأطئون رؤوسهم أو يخجلون حتى مما صنعوا بمعارضيهم ومعارضي النظام الذي كانوا يخدمونه!
إذا كان هناك من خلاف مع بن زكري وحرزني والوديع اليوم فهو حول المقاربة الأكثر ملاءمة لما تعيشه البلاد اليوم. أما ماضيهم، فهو تاج فوق رؤوسهم كشباب ناضل ضد الاستبداد والقمع وضحى بدون حساب من أجل الوطن والوطن فقط. ولا يمكن لأي كان- فالأحرى البصري- أن يجعل من هذا الماضي سبة أو شتيمة. ولكن اللاعقاب يجعل الجلادين اليوم يسبون ضحاياهم عوض أن يطلبوا الصفح... يعطون نصائح حول الانتخابات وهم من كانوا يزورونها من ألفها إلى يائها...
هل يمكن أن نستسيغ اليوم قول البصري بأن الانتخابات في عهده كانت شفافة على عكس الانتخابات الأخيرة. صحيح في عهده لم يتم التستر على النتائج النهائية، ولكنها كانت كلها مزورة حتى وهي منشورة على الملأ . الانتخابات الاخيرة لم تكن شفافة تماما ولكنها أقل عبثا . هدا لايعفي الساهرين عليها من خطيئة التستر على نتائجها التفصيلية إلى حد اليوم.
هل نصدق إدريس البصري وهو يقول إنه خلال 30 سنة لم يتم اعتقال إلا 3000 مواطن، بينما بعد أحداث 16 ماي تم اعتقال 7000!!؟ هل نسي إدريس البصري انه اعتقل عشرات الألوف من المغاربة وطرد من الوظيفة العمومية المئات وتم قتل العشرات؟ مقاربة ما بعد 16 ماي كانت خاطئة في كثير من جوانبها، لكن ذلك لا يعفي البصري مما وقع في عهده.
هل يتحدث البصري يوما عما جرى حقا خلال عهده؟ ذاك ما قد يفيدنا لتجنب ماجرى. وهل يعترف بما اقترفت يداه؟ وذاك ما قد يكون خطوة أولى نحو التوبة واستقامة تحليله... غير ذلك، سيأخذ إدريس البصري- من خلال خرجاته الإعلامية- الرأي العام رهينة بين يديه في صراعه مع محيط الملك. ليس أكثر.
الطيب حمضي

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi