الأحزاب الجَنِـيسة

دعونا نتحدث عن الأدوية الجَنِيسة أولا (Médicaments Génériques)، وبعدها الأحزاب الجَنِيسة (Partis Génériques).
لا شك أنكم تتابعون هذه الأيام وصلات إعلانية تبين أهمية استعمال الأدوية الجَنِيسة بدل الأدوية المرجعية. الأدوية الجَنِيسة هي نسخ طبق الأصل للأدوية المرجعية، ولها نفس الفعالية بالضبط، وثمنها أرخص بكثير. على سبيل المثال، قد تجد دواء ثمنه 300 درهم والدواء الجَنِيس ثمنه أقل من 50 درهما بنفس الفعالية بالضبط.
والسبب؟ حين يكتشف مختبر ما دواء جديدا، يكون قد قام بصرف ميزانيات ضخمة في البحث لمدة سنوات. لذلك، حين يتم اكتشاف دواء جديد، يعطيه القانون حماية لمدة 20 سنة لا يمكن لأحد أن ينتج أو يبيع دواء مشابها له. خلال هذه العشرين سنة، يكون وحده «محتكرا» للسوق ويبيع دواءه بثمن عال لا يشكل فيه ثمن الكلفة إلا نسبة قليلة والباقي رسوم ومصاريف وأرباح واسترجاع لمصاريف الاستثمار في البحث. وهذه مسألة معقولة، إذ لولا ذلك لما قام أي أحد بصرف سنتيم واحد في البحث، ولما تطورت وسائل العلاج. بعد العشرين سنة، يمكن لأي مختبر أن يستنسخ ذلك الدواء ويبيعه بثمن أقل من ثمن الدواء المرجعي. ولذلك، فالفرق بين الإثنين هو «فارق قانوني» فقط وليس طبيا ولا كيميائيا: نفس الفعالية تماما ونفس الخصائص.
هذا عن الأدوية الجَنِيسة. لنعد الآن إلى الأحزاب والعمل الحزبي بالمغرب.
هناك إجماع بالمغرب اليوم على أن العمل الحزبي في أزمة عميقة. رغم الكم الكبير من الأحزاب، فإن المواطن لا يجد نفسه فيها ولا يحس بأنها تمثله أو تعبر عن مشاكله وانتظاراته. لذلك، لم تستطع مثلا كل هذه الأحزاب والرموز أن تستقطب إلا ثلث الناخبين في انتخابات 2007. وصورة الأحزاب سيئة لدى المواطن المغربي، فهي مؤسسات في أغلبها غير ديمقراطية، لا تجدد هياكلها، زعماؤها خالدون، تتفشى داخلها المحسوبية، لا تتمتع بالشفافية لا في تدبيرها التنظيمي ولا الإداري ولا المالي، غير مستقلة عن الدولة، غير قادرة على اتخاذ المبادرات، مكتفية بالتصفيق والتهليل لبرامج الدولة، لا برامج لها تسعى إلى تطبيقها...
هذه الأزمة هيكلية وليست مرتبطة فقط بعجز الأشخاص، رغم أن لهم مسؤوليات كبرى في خلق الأزمة. ولكن القوانين والإطار العام المليء بالامتيازات الممنوحة للسياسيين جعلت من العمل الحزبي فرصة للترقي الاجتماعي على حساب العمل الوطني، وفرصة للإثراء والحصول على الامتيازات. ومادام هذا الإطار كما هو، فإن الحياة الحزبية لن تعرف لا تجديدا ولا ديمقراطية ولا شفافية ولا هم يحزنون.
حين أسس الهمة ورفاقه «حركة لكل الديمقراطيين»، شاطرها التشخيص عدد من الفاعلين، ولكن - وكما سبق أن قلت في مقال سابق- «ليس هناك نفس الوضوح في الرؤى بخصوص أدوات وأساليب العمل».
كل تلك الأفكار التي عبرت عنها الحركة في لقاءات جهوية همت المغرب كله خلصت إلى تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة من خمسة أحزاب قائمة بعضها جزء من التجارب الحزبية بالمغرب المسؤولة عن فساد العمل الحزبي ببلادنا. لم يكن هناك أي إبداع ولا اجتهاد ولا بحث في ابتداع أساليب وأدوات جديدة للعمل السياسي تعيد للأخير مصداقيته ونبله. اكتفى السيد الهمة ورفاقه بتأسيس حزب على نفس شاكلة الأحزاب القائمة. تم تأسيس حزب جَنِيس، في أحسن الأحوال ستكون له نفس مواصفات الأحزاب القائمة. لم يتم استثمار حتى المشاورات الواسعة والآمال التي فتحت تلك اللقاءات حتى وإن كانت جنينية. هناك إحساس بأن الأمور عولجت بتسرع وبتفكير قريب المدى عوض التدبير الاستراتيجي لحاجيات البلاد، وبتدبير حزبوي مغربي تقليدي عوض التدبير التشاركي للقوى التي اعتمدتها الحركة نفسها. وهذا جزء من أسباب إخفاق الحزب الوليد في تحقيق ما كان ينتظره من الانتخابات الجزئية.
الساحة السياسية في حاجة عميقة إلى الخلق والابتكار والإبداع والبحث عن أساليب ووسائل جديدة تخلص بلادنا من ممارسات حزبية عتيقة وعقيمة وتدفع إلى اليأس. ليس حزب الأصالة والمعاصرة وحده الحزب الجَنِيس الذي تأسس ببلادنا. منذ عقدين من الزمن وبلادنا تعرف تأسيس أحزاب جَنِيسة، باستثناء حزب العدالة والتنمية إلى حد الساعة، (من حيث توظيفه لمرجعية دينية، واستقطاب فئات اجتماعية جديدة للعمل السياسي، وإعمال التداول وبعض من الشفافية الديمقراطية الداخلية...) والحزب الاشتراكي الموحد في قوانينه وأدبياته المؤسِّسة (التصريح بالممتلكات، الشفافية، التداول، الميثاق الأخلاقي...)، لكن في الممارسة شيء آخر.
سيكون من المجحف أن ينتظر المغاربة من الهمة ورفاقه القيام بهذه المهمة، ولكن كان بإمكانهم تحريك البركة الآسنة في هذا الاتجاه. المسؤولية صعبة جدا وأحيانا تبدو مستحيلة وسط عقليات حزبية متصلبة، لكن أول الغيث قطرة. لكن، كما فات الآخرين، فات حركة الهمة أن تكون هي تلك القطرة، بعد تأسيسها حزبا جَنِيسا، عوض المثابرة لخلق حوار وطني للتفكير في إبداع صيغ رائدة وجديدة وخلاقة لإعادة الاعتبار للعمل الحزبي وتأهيل الممارسة السياسية ببلادنا، بدل الركون للحلول السهلة والمتداولة والجاهزة.
الطيب حمضي
26 septembre 2005

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi