حربُُُُ ُ بالوكالة

المواجهة التي تقودها الدولة منذ أيام ضد حزب العدالة والتنمية لن تضع أوزارها قبل نهاية مسلسل الاستحقاقات التي يقبل عليها المغرب، من انتخابات جماعية حتى تجديد ثلث مجلس المستشارين. يبدو أن الدولة وجدت نفسها مضطرة إلى دخول حرب مباشرة ضد إسلاميي العدالة والتنمية، بعد أن تبين لها أن القوة التنافسية للأحزاب الأخرى مجتمعة لن تكون كافية لكبح جماح العدالة والتنمية ومنع فوزها بمدن ومراكز أساسية بالمغرب. من المؤكد أن حزب العدالة والتنمية لن يحقق اكتساحا ساحقا خلال الانتخابات المقبلة، لكن ضعف وتهلهل الأحزاب الأخرى سيسهل عليه مأمورية الفوز بنسب ربما هو نفسه لا يتوقعها أو لا يطمح إليها أصلا.

الدولة قبلت منذ سنوات خوض تجربة احتواء الإسلاميين من خلال دمجهم في المسلسل الديمقراطي لعدة أسباب:
أولها أن المنطق السياسي السليم لا يقبل أبدا التجاهل السلبي لقوة مجتمعية سياسية قائمة وصاعدة ومتنامية، وإلا تحول الأمر إلى مواجهات عنيفة.
ثانيا، من شأن دمج الإسلاميين في العملية السياسية أن يعطي للجمهور الفرصة للحكم على هؤلاء من خلال الممارسة وليس فقط من خلال الشعارات والآيات القرآنية، خصوصا أن حلبة الممارسة ليست مفتوحة كلها، بل تضيق أحيانا وتتسع أخرى، وبها الكثير من المطبات التي يجب تفاديها.
ثالثا، دمج بعض الإسلاميين دون البعض الآخر- وأبرزهم العدل والإحسان- يعطي تغطية للمواجهة مع الآخرين وللحرب اليومية عليهم لتقليم أظافرهم.
هذا الإدماج السياسي لصف من الإسلاميين له تبعات وثمن لابد من تأديته، وهو تواجد هؤلاء داخل المؤسسات السياسية تواجدا فعليا وليس فقط رمزيا أو فلكلوريا. فالإسلاميون هم الآخرون لهم حساباتهم للاستفادة من عملية المشاركة السياسية. وإسلاميو العدالة والتنمية يعملون بثبات من أجل تحسين تواجدهم داخل المؤسسات المنتخبة، من خلال تحسين أدائهم وتقديم أحسن ما لديهم، ومن خلال استثمار كل التعاطف الشعبي معهم ومع مواقعهم وتحويله إلى تصويت إيجابي لصالحهم وصالح مرشحيهم.
وبما أن جماعة العدل والإحسان، وتيارات دينية أخرى، تختلف مع حزب العدالة والتنمية، لاتشارك في العملية السياسية فإن هذا الأخير يستفيد انتخابيا من كل التعاطف والأعمال والنضالات التي تقوم بها كل التيارات الإسلامية، باختلاف ألوانها. فالمواطن المتعاطف مع الحركة الإسلامية وغير المنتمي لأي جماعة، وهم الأكثرية، حين يتوجه إلى صناديق الاقتراع يختار أقرب الناس إلى توجهاته، وهم مرشحو العدالة والتنمية.
وزارة الداخلية تقوم، قبل كل انتخابات، تقوم بدراسات توقعية للنتائج المحتملة. ومع تهلهل وانقسام وتصدع الأحزاب السياسية وانحسار دورها التأطيري وضمور إشعاعها، و غياب اشتغالها وسط الناس، يبدو أن الفرصة كبيرة بالنسبة للإسلاميين لتحقيق فوز غير مسبوق خلال الانتخابات المقبلة. والمتأمل للتظاهرات التضامنية الأخيرة مع غزة التي عرفتها مدن المغرب، يتبين له بوضوح كيف كان الإسلاميون حاضرين بقوة، بل فاعلين أساسيين في توجيه وتحريك التضامن الشعبي الذي لم يكن محتاجا إلا لمن يؤطره، فكان الإسلاميون وغابت الأحزاب كلها أو بعضها تقريبا.
الدولة تدرك أن اللجوء إلى تزوير صناديق الاقتراع لم يعد ممكنا كما كان. وبالتالي، عليها خوض حرب استباقية ضد الإسلاميين لتحجيم مشاركتهم في الانتخابات، من جهة، وتحجيم النتائج التي يمكن أن يحصلوا عليها، من جهة ثانية.
التطبيع الذي تعرفه علاقة حزب العدالة والتنمية من شأنه تشجيع المواطنين على التصويت لصالح هذا الحزب، بل الأهم من ذلك تشجيع بعض الأعيان والوجوه المحترمة بالمدن، كما البوادي، على الترشح ضمن لوائح العدالة والتنمية. لذلك، فإن أول رسالة من مواجهة الدولة مع الإسلاميين، أربعة أشهر قبل الانتخابات المقبلة، هو أن الحزب له "مشاكل" مع الدولة وخير لكم "اجتنبوه"!
طبعا، حين تخوض الدولة مواجهة مفتوحة مع العدالة والتنمية من أجل تحجيم مشاركته داخل المؤسسات المنتخبة، فإن المستفيد الأول- انتخابيا- هم الأحزاب الأخرى. لذلك، فإن الحرب التي تخوضها الدولة هي حرب بالوكالة عن باقي الأحزاب ضد العدالة والتنمية. الدولة مستفيدة استراتيجيا وسياسيا والأحزاب الأخرى مستفيدة انتخابيا.
في صف الإسلاميين، المواجهة التي يخوضها حزب العدالة والتنمية هي مواجهة سياسية للخط السياسي للتيار الديني بالمغرب ولتواجد هذا التيار وتطوره وترعرعه بالبلاد، سواء داخل الهيآت المنتخبة، من خلال أصدقاء زعيم العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، أو داخل المجتمع ككل، بالنسبة لباقي فصائل الإسلاميين. لذلك، يمكننا القول إن السيد عبد الإله بنكيران وزملاءه يخوضون هم الآخرون حربا أصالة عن أنفسهم وبالوكالة عن التيار الإسلامي بالمغرب ككل، المشاركون منهم والمقاطعون للمؤسسات على حد سواء.
في مصر، التي تعرف قبلنا حراكا سياسيا قويا وتواجدا للتيار الديني، تعمل الدولة دائما على اعتقال المئات من الإسلاميين ومحاكمتهم، كلما كانت البلاد مقبلة على الانتخابات لتخويف الناخبين ومنع الإسلاميين من الترشح.
في الجزائر سنة 89 دخلت البلاد تجربة انتخابية مفتوحة فازت خلالها جبهة الإنقاذ الإسلامية بالانتخابات البلدية، وهو الفوز الذي استغلته جيدا للتحضير للانتخابات التشريعية التي فازت بدورها الأول. ثم تدخل الجيش لتوقيف الانتخابات. وكانت النتيجة عشر سنوات من الحرب الأهلية وعشرات الآلاف من القتلى.
في تركيا، يجرب الأتراك اللعبة لآخرها، بعد سنوات من المواجهة. يفوز الإسلاميون ويتم حل الحزب! اليوم، التجربة التركية متميزة، لكن لا أحد يعرف أين ستقود من حيث تعايش تيار الإسلام السياسي مع الديمقراطية.
المغرب يحاول "الاستفادة" من كل هذه التجارب. الانتخابات البلدية بالمغرب عادة ما كانت تسبق الانتخابات البرلمانية. لكن منذ تجربة الجزائر، أصبحت البلديات تأتي بعد التشريعية، حتى لايتم الاستفادة من الفوز المحلي لدعم الحضور داخل البرلمان. فالتوازنات داخل البرلمان أخطر من البلديات وإن كانت هذه الأخيرة نفسها سلاحا خطيرا يمكن استغلاله جماهيريا.
سنة 2003، عرف المغرب الهجمات الإرهابية بالدار البيضاء مع ما تلاها من توجيه أصابع الاتهام إلى التيار الديني وإلى الإسلام السياسي، مما حجم مشاركة الإسلاميين وحجم النتائج المحصل عليها.
كما استعملت الدولة ورقة التفاوض مع الإسلاميين لمنع تغطيتهم لكل الدوائر خلال الانتخابات. وعملت على تغيير القوانين الانتخابية والتقطيع الإداري لمنع سيطرة فصيل سياسي على المؤسسات. وتحاول خلق أدوات سياسية وجمع شتات الأحزاب عساها تشكل قوة تنافسية ضد الإسلاميين. فالدولة تدرك أنه لا يمكن مواجهة قوة متصاعدة داخل المجتمع بالقوانين أو بالقمع، بل لابد من بروز أفكار حداثية ومشاريع مجتمعية لها قوة تنافسية في الواقع يتم ترجمتها من خلال الانتخابات.
لكن المشكلة أن الأحزاب استهواها الحصول على المقاعد بسهولة. فأوكلت مهمة مواجهة المنافس القوي، أي الإسلاميين، للدولة. أجهزة الدولة هي المكلفة بمواجهة العدل والإحسان، حتى تبقى الساحة خالية للأحزاب من دون منافس ميداني حقيقي. وهي مكلفة بتحجيم العدالة والتنمية، حتى تفوز الأحزاب بالمقاعد والمسؤوليات ويبقى بعض الفتات للعدالة والتنمية.
اليوم، الدولة أدركت أن المواجهة التي يفترض أن تخوضها الأحزاب لمنافسة العدالة والتنمية لن تتم، لأن الأحزاب عاجزة عن ذلك. "فشمرت على سواعدها" لتخوض المواجهة بنفسها.
بلاغ الوزير الأول السيد عباس الفاسي الذي يُقرِّع فيه زعيم العدالة والتنمية حول إدخال الملكية في الحسابات السياسية بمناسبة التضامن مع غزة، واعتذار السيد بنكيران عن ذلك، كان نقطة انطلاق المواجهة. فرد زعيم الإسلاميين بأن الرسالة وصلته وانحنى للعاصفة. وشكل توقيف عمدة مدينة مكناس الإسلامي، من طرف وزارة الداخلية، الخطوة الثانية، مع ما تبعها من حملة إعلامية رغم أن للتوقيف مايبرره من حيث الختلالات المنسوبة للعمدة المكناسي حسب وزارة الداخلية.
وقد عبر زعيم العدالة والتنمية عن توصله بالرسالة،فرد عليها بأن أعلن أن حزبه لن يرشح أكثر من 6 إلى 10 آلاف خلال الانتخابات المقبلة... يعلن ذلك لطمأنة الدولة بأن حزبه لن يعمل على اكتساح المقاعد حتى وإن توفر على القوة لذلك. وذلك كان هو هدف الدولة بالتأكيد، وستتفاوض بشأنه مع قيادة الإسلاميين، ولكن ليس قبل إضعافهم وقص أجنحتهم وتقليص التعاطف الشعبي معهم.
هي حرب استباقية تخوضها الدولة، نيابة وبالوكالة عن الأحزاب، ويخوضها حزب العدالة والتنمية بالوكالة عن التيار الديني بالمغرب ككل. حرب ستبقى مفتوحة، قبل أن تضع أوزارها بعد الانتخابات، ليتم التطبيع من جديد.

الطيب حمضي

6 fevrier 2009

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi