الإضراب: الحق المشروع والأجر المدفوع

الإضراب حق مشروع. هذا نص دستوري وحق يضمنه الدستور كأسلوب من أساليب الدفاع عن الحقوق في حال فشل الحوار والمفاوضات وغيرها من الوسائل المتعارف عليها في حل القضايا الخلافية بين أرباب العمل والأجراء، بين القطاعات الحكومية وموظفيها...
وقد كانت ممارسة هذا الحق تعتبر "جريمة" يكون مصير "مقترفيها" السجن والتعذيب والفصل عن العمل وأحيانا الاغتيال. لذلك، كان العمال أو الموظفون حين يقررون ممارسة هذا الحق، يقومون بالمغامرة بمستقبلهم، مستقبل عائلاتهم، والمغامرة بحرياتهم ومصدر رزقهم، بل التضحية بحياتهم في سبيل تحقيق مطالبهم. لكننا اليوم أمام أجواء أكثر انفتاحا وأكثر حرية، لا يشعر معها الداعي للإضراب ولا الممارس له بالخوف على حياته أو حريته أو حتى مصدر رزقه، باستثناء بعض الوحدات الإنتاجية أو المعامل التي يملكها أو يسيرها أناس ينتمون فكريا للعصور الوسطى.
لذلك، أضحينا نعيش على إيقاع إضرابات متتالية ومتنوعة ومختلفة المدد والأشكال ومتنوعة المصادر الداعية لها.. وشخصيا، أرى في ذلك ظاهرة صحية، بل طبيعية في بلاد لازال معظم موظفيها يعيشون في ظروف عمل غير إنسانية، ناهيك عن الأجور الهزيلة التي لا تكفيهم حتى لثلث الشهر، فالأحرى ثلاثون يوما بالتمام والكمال. وظاهرة طبيعية في بلاد لازال العمال محرومين من أبسط حقوقهم التي يضمنها لهم القانون، فالأحرى الأجور التي تضمن عيشا فقط ولا أقول عيشا كريما...
لكن ما لا أفهمه، ولا أتفهمه، هو أن يقوم الفرد بيوم أو عشرة أيام إضرابا دفاعا عن حقوقه وتلبية لدعوة نقابته، وفي آخر الشهر يهرع لسحب حوالته كاملة غير ناقصة وكأنه عمل الشهر كله من أوله لآخره!! وإذا ما لاحظ نقصا فيها (اقتطاعا) اعتبر ذلك تضييقا على نقابته وعلى حقه الدستوري في ممارسة الإضراب! وهدد وهددت النقابة التي ينتمي إليها بتنفيذ إضراب للدفاع عن قبض أجر عمل لم يقم به.
لنكن صرحاء. ليس هناك قانون في العالم، ولا مكان في العالم، ولا منطق في العالم يعتبر أن المضرب من حقه عدم العمل لمدة معينة، وفي آخر الشهر يقوم المشغل أو الشعب بأداء أجر أيام الإضراب!
صحيح أن الظاهرة- ظاهرة عدم اقتطاع أيام الإضراب- أصبحت محصورة في بلادنا في عدد قليل من القطاعات العمومية، لكن استمرار النقابات في قبول هذا الوضع، فالأحرى اعتباره حقا مكتسبا، يجعل من العمل النقابي مشوبا ببعض النقص في مشروعيته القانونية والأخلاقية.
في القطاع الخاص والمؤسسات شبه العمومية، كانت الأمور دائما محسومة: حين يقوم العمال أو المستخدمون بيوم أو أسبوع من الإضراب يتم اقتطاع ذلك من أجرهم دون أن يمنع ذلك العمال من استعمال هذا الحق كلما ارتأووا أن مطالبهم تستحق أن يُضحوا من أجلها بيوم أو أكثر من أجرهم الشهري.. يضحون بأجر الأيام التي لم يعملوا خلالها من أجل تحقيق مطالب كبيرة وحقيقية وسامية. وذلك الاقتطاع ليس عقابا لهم، ولكن ببساطة لأن الأجر هو مقابل العمل.
هناك بعض القطاعات العمومية القليلة التي لازالت لا تطبق مسطرة الاقتطاع وعقليات نقابية جامدة تعتبر أن انعدام الاقتطاع هو حق دستوري أو حق مكتسب أو أن الاقتطاع هو تضييق على حق ممارسة الإضراب.
وأنا أبحث في الموضوع للقيام بالمقارنات بين تجارب الدول، لم أجد أي نقابة، لا في الدول الديمقراطية ولا غير الديمقراطية، تعتبر الاقتطاع تضييقا على الحرية النقابية. ويمكن الاستئناس بالتجربة الفرنسية مثلا، وهي الدولة المولعة نقاباتها بممارسة الإضرابات. ليست هناك نقابة واحدة ولا حتى اجتهاد (ولا حتى تكاسل) يعتبر أن من حق المُضرِب أن يمتنع عن القيام بعمله -بشكل مشروع- والمطالبة بأجر أيام عدم عمله!
لذلك، أضحينا اليوم أمام إضرابات يدعو لها أي كان، متى ما كان وكيفما كان! وكل من دعا لإضراب يجد له أنصارا ومتعاطفين ومناضلين مستعدين للإضراب شريطة الحصول على أجرهم كاملا غير ناقص.
إن ممارسة الإضراب حق دستوري محتاج لأن تعمل الحكومة والنقابات معا على التوافق والتفاهم حول قوانين منظمة له من أجل تنظيم وتقنين ممارسته: متى يمكن ممارسة الإضراب؟ من له الحق في الدعوة له؟ كيف يتم تنفيذه؟ كيف تجب حمايته؟ كيف يجب معاقبة من يعيق ممارسته؟ ماهي الآجال التي يجب احترامها في الإعلام به؟..
هكذا، تكون الممارسة واضحة والحق محميا. لكن ما نحن بصدد الحديث عنه، اقتطاع أيام الإضراب، لا علاقة له ولا حاجة لتطبيقه، لا لمراسيم ولا لقوانين تنظم الاضراب.
هناك حاجة فقط لنقابات مسؤولة، شجاعة، متحلية بأخلاق وطنية وتفرض على نفسها وعلى مناضليها ومنخرطيها أن لا يمدوا أيديهم لأجر لا يستحقونه عن أيام لم يعملوها. مناضلون يرفضون أن يضعوا أيديهم في أموال الشعب لاستخلاص أجر غير مستحق.
وهناك حاجة لتطبيق القانون فقط.
هل هي دعوة للتضييق على حق الإضراب؟
بالمطلق لا، لكنها دعوة لإعطاء الإضراب وجهه النقابي والنضالي الحقيقي لفرز العمل النقابي الحقيقي عن المزايدات الفارغة، ولفرز المؤسسات النقابية الحقيقية عن الذين يريدون الاستفادة من وضع خاطئ لإيجاد مكان لهم في الحياة العامة.
من قبل أيام سنوات الرصاص، كان أهون على الموظف أن يقتطع الأجر من أن يمارس الإضراب، لأن ذلك يؤدي إلى قطع الأرزاق وأحيانا الأعناق. لكننا اليوم أمام جهات أهون عليها أن تقوم بالإضراب على أن تذهب لممارسة عملها!
أقول هذا، وأنا أؤكد أن ظروف عمل الموظف بالمغرب، ومستوى معيشته، تتطلب ليس فقط إضرابا واحدا أو اثنين، بل إضرابات متواصلة. وإذا كانت الميزانية لا تسمح بتحقيق المطالب الدنيا للموظفين، فليس على هؤلاء التخلي عنها، بل على أولئك الذين يرسمون الميزانيات أن يذهبوا لحال سبيلهم وترك المجال لآخرين قد يفلحون في توزيع أكثر عدالة لخيرات هذه البلاد.
في انتظار ذلك، فإن الإضراب حق مشروع، لكن دون أجر مدفوع، والمناضلون الحقيقيون والنقابات الحقيقية لا تقبل أخذ أجور غير مستحقة والمطالب الكبيرة والمعقولة تستحق الإضراب والتضحية بأجر يوم أو يومين عمل أو أكثر حتى تحقيقها، وما دونها أو أقلها أهمية قد لا تستلزم إضرابات، بل احتجاجات، مسيرات، وقفات، حمل شارات أو غيرها من الأساليب النضالية الأخرى.

الطيب حمضي

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi