العمليات الاستشهادية: مسائلة الذات

منذ أشهر عدة وأنا متردد في الكتابة بصراحة عن العمليات التفجيرية الانتحارية من أجل مسائلة الوعي الجماعي للمغاربة والتحسيس بخطورة وسيلة إرهابية جديدة قد نتساهل في إدانتها اليوم، تكون سبب خراب مستقبلنا وتدمير حياتنا وحياة من نعز. وفي نفس الوقت قررت إبداء الرأي حول العمليات الاستشهادية التي يقوم بها الشباب الفلسطيني داخل إسرائيل. ومن البداية فإني أفرق بين القضيتين: عمليات تفجيرية انتحارية من جهة والعمليات الاستشهادية، فالأولى عمل إرهابي خالص، أدينه كما أدين أي عملية إرهابية أخرى، والثانية شكل من أشكال المقاومة اضطر الفلسطينيون إلى استعماله دفاعا عن النفس، وإن كانت الوسيلة نفسها فيها الكثير مما يقال من حيث حق منفذيها في الحياة، و ضحاياها وأهدافها ومردوديتها وتأثيرها على تطور نضال الشعب الفلسطيني.
أفرق بين العمليات التفجيرية الانتحارية كتلك التي عرفتها ماليزيا، والبيضاء، وتركيا والسعودية مؤخرا ومدريد ... والعمليات الاستشهادية من حيث أن كل صنف له مميزاته و خاصياته:
1- العمليات الاستشهادية لها أهداف محددة، معروفة، معلنة ومشروعة: مقاومة الاحتلال وطرد المستعمر.
2- العمليات الاستشهادية دفاع عن النفس ضد الجبروت الإسرائيلي، الذي يقتلع الأخضر واليابس، يقتل المسلحين والمدنيين، النساء والرجال، الأطفال والكهول.
3- العمليات الاستشهادية موجهة ضد عدو لم يترك للفلسطينيين مجالا كبيرا للحركة والدفاع عن النفس. فالحكومة الإسرائيلية لا تعبأ بالقرارات الدولية ولا بالقانون الدولي ولا بالرأي العام العالمي. تمارس العقاب الجماعي، والقتل خارج نطاق القضاء والتقتيل الجماعي والتنكيل اليومي بشعب محاصر ومجوع. إن حكومة إسرائيل تمارس بكل بساطة إرهاب الدولة.
4- العمليات الاستشهادية تقوم بها أجنحة عسكرية لتيارات سياسية فلسطينية لها قيادات وتنظيمات وأهداف. أي تابعة لجناح سياسي ممكن التفاوض معه والوصول لحلول.
5- العمليات الاستشهادية هي جزء من نضال مسلح ونضال سياسي طويل يخوضه الشعب الفلسطيني منذ أزيد من نصف قرن، وليست وليدة قرارات لحظية وردود أفعال ضد أوضاع آنية.

أما العمليات التفجيرية الانتحارية:
1- فأهدافها إما غير معلنة تماما، أو فضفاضة وعامة، أو غير مشروعة أصلا. فهؤلاء يريدون معاقبة هذه الحكومة على مواقفها من الحرب ضد العراق (إسبانيا)، وآخرون يهددون بمعاقبة حكومة على قرار داخلي حول الحجاب (فرنسا) وعمليات أخرى يهدف أصحابها إلى ضرب اليهود أينما كانوا (عملية جربة) ... بمعنى أنه وفقا لهذا المنطق، فإن أي مجموعة من ثلاثة أو خمسة أشخاص أو ربما أقل لم يعجبها قرار ما (عدم تسوية أوراق الأجانب مثلا، أو بيع الخمور أو ظهور نساء بدون حجاب على شاشات التلفزيون) يعتبرون أن من واجبهم الأخلاقي، أو السياسي أو الديني القيام بعملية انتحارية تفجيرية لمدرسة أو قطار أو مستشفى لحمل الحكومة على مراجعة قراراتها !!
2- العمليات التفجيرية الانتحارية تقوم بها جماعات أو مجموعات، لم تقم بأي مجهود للوصول إلى أهدافها بطرق سلمية، فبين عشية وضحاها تنبث جماعات مسلحة تحدد أهدافها (إن كانت لها أهداف) دون الإعلان عنها وتبدأ في حصد أرواح الأبرياء.
3- العمليات التفجيرية تهدف إلى فرض آراء من المفروض أن النضال السلمي هو سبيلها الوحيد. والشعب الإسباني مثلا هو المؤهل الوحيد لمعاقبة حكومته على انخراطها في الحرب ضد العراق. وهو قادر على ذلك. والشعب الذي فقد 200 من أفراده وحوالي 2000 جريح هو نفسه الذي خرج منه خمسة ملايين متظاهر ضد الحرب.وكان 90 في المائة منه ضد قرار الحكومة بخوض الحرب ضد العراق بجانب بوش.
ولنعط مثالا آخر : المغرب كان يقيم علاقات دبلوماسية مع العدو الإسرائيلي، هل كان هذا يعني أن يقوم المناهضون ضد التطبيع بتفجير قطار لحمل الحكومة علا قطع العلاقات مع إسرائيل؟ خاض الشعب المغربي نضالا مدنيا وضغطا جماهيريا حتى تمت الاستجابة لضغط الشارع. ليس كل من نبتت في دماغه فكرة إلا وكانت هي الحقيقة التي يجب قتل الأبرياء من أجل فرضها.
4- العمليات التفجيرية الانتحارية تقوم بها مجموعات مجهولة الأهداف والتنظيم، ويصعب بالتالي حتى أخذ أهدافها مأخذ الجد، إذا ما افترضنا ذلك. فلا شيء يمنع مجموعة مجهولة أن تفتي علينا كل يوم مطالب جديدة.
5- ولنفترض أن مطالب المجموعات المجهولة أحيانا مطالب "معقولة" ما الذي يمنع إذا رضخنا لذلك وأصبحت هذه العمليات وسيلة ناجعة لتحقيق المطالب أن نرى إذا مجموعات أخرى بمطالب غريبة، ولن يكون أمام المجتمعات إلا الرضوخ لها أو يتم تفجير حمام للنساء أو معمل لنسج الزرابي ؟
6- العمليات التفجيرية الانتحارية تروم تحقيق أهداف إما غير مشروعة أصلا يلجأ أصحابها لهذا الأسلوب الإرهابي لتحقيقها، أو تروم تحقيق أهداف مشروعة ولكن لا تحظى بقبول الغالبية بل أقلية قد تتطور مع الزمن لأغلبية، أو أهداف مشروعة يمكن بل يجب تحقيقها بالوسائل السلمية المتاحة.
وحيث تكون الوسائل السلمية الديمقراطية غير متاحة يجب النضال من أجل فرض نظام سياسي ديمقراطي يبيح هذه السبل والوسائل وليس الحفاظ على النظام على ما هو عليه وفرض آراء وقرارات عن طريق الإرهاب مع الإبقاء على أصل الداء.
لكل ما سبق فان العمليات التفجيرية الانتحارية التي تستهدف قتل المدنيين الأبرياء هي عمليات إرهابية مدانة سواء وقعت بالمغرب أو أسبانيا وإنجلترا أو أي دولة من دول العالم.
هي عمليات إرهابية وجب محاربتها ومحاربة المناخ والبيئة التي تفرزها على كل المستويات: الأمنية والمادية والفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها من العوامل. لأن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يعيش تحت جبروت وتهديد الإرهاب الذي يمكن أن يضرب في أي مكان، ولأي سبب وبأي وسيلة.
هذه أعمال إرهابية يجب محاربتها بنفس القوة التي يجب بها مقاومة ومحاربة إرهاب الدولة، كذلك الذي يمارسه شارون ضد لشعب الفلسطيني.

العمليات الاستشهادية
ولنتحدث كذلك وبصوت عال عن العمليات الاستشهادية التي يقوم بها شباب فلسطيني يقدم روحه دفاعا عن شعبه فداءا لاستقلال وطنه.
ولا أخفي منذ البداية أن هذه العمليات رغم نبل أهدافها ونبل منفذيها ونبل قضيتهم ورغم وطنية تياراتهم، لا اخفي موقفي المزكي لموقف عدد كبير من المثقفين والمسؤولين والشخصيات الفلسطينية والداعي إلى وقفها وذلك بالنسبة لي للاعتبارات التالية:
1- إن الشباب الاستشهادي هو شباب له الحق في الحياة مثل كل البشر، ولا يمكن أن يحرم من هذا الحق فقط لأنه فلسطيني وأرضه محتلة من طرف عدو لا يعرف حدودا للتنكيل ولا يحترم شرائع لا سماوية ولا أرضية.
من مسؤولية المجتمع الدولي أن يوفر لهذا الشباب وهذا الشعب فرص الحياة وليس التفرج بجبن على يأسه ولجوئه لمثل هذه العمليات، دون أن يحرك فينا ذلك ساكنا.
هؤلاء الشباب لهم الحق في الحياة، وعلى المجتمع الإنسان حمايتهم.
2- العمليات الاستشهادية تستهدف مدنيين، وهؤلاء مدنيون حتى وان وجدوا داخل إسرائيل. وهم مدنيون أبرياء، يصعب تبرير قتلهم. وحين يحس كل مدني أنه مهدد فمن الطبيعي أن يتطرف أكثر، ويعطي مشروعية أكثر لحاكم دموي مثل شارون. المجتمع الإسرائيلي فيه متطرفون وهم كثر، وفيه دعاة سلام، وهم قلائل، لكن استهداف المدنيين يقوي صفوف المتطرفين أكثر.
3- العمليات الاستشهادية أصبحت اليوم، وخصوصا بعد استعمالها في جهات أخرى لأغراض إرهابية، أصبحت عقبة أمام تفهم الرأي العام الدولي لمشروعية النضال الفلسطيني، ولنلاحظ أن ما حققته انتفاضة الحجارة الأولى من تعاطف دولي لا مقارنة له مع الوضعية اليوم.
4- إن المرحلة التي وصل إليها النضال الفلسطيني والموقف العربي (القبول بإسرائيل كدولة، القبول بحدود 1967 ... ) يجعل في الوقع إسرائيل هي المستفيدة من توقف مسلسل التسوية السلمية تحت أنظار العالم. فلم يبق للفلسطينيين ما يتنازلون عنه أو يعطوه، بل إسرائيل هي التي أصبحت مطالبة برد الحقـ أو جزء منه ـ لأصحابه. وان كل نضال مسلح يهدف تحقيق مطالب سياسية وإلا كان مضيعة للأرواح.
لدلك فإن اختيار الأسلوب والتوقيت لا بد وأن يراعي الظروف السياسية وأن يهدف إلى خدمة النضال السياسي وليس إعاقته وهدمه.
5- إن العمليات الاستشهادية كانت رسالة لإسرائيل وللضمير العالمي، وقد أدت مهمتها: لإسرائيل قالت أنه لا يمكن للشعب الإسرائيلي أن ينعم بالسلام والأمان وحكومته تحتل أرضا وتنكل بشعب حتى ولو امتلكت كل قوة العالم. وللضمير العالمي لتبين له الى أي حد وصل الجبروت والطاغوت الصهيوني .
إن الرسالة وصلت، ومن شأن مواصلتها في هذا الظرف الدولي الكئيب أن يعكس آيتها.
6- عوض ان نقول أنه لم يعد للشعب الفلسطيني من سبيل غير الدفع بأبنائه في عمليات استشهادية ما دامت الأنظمة العربية خانعة والشعوب العربية نائمة، عوض ذلك علينا أن نتحرك جميعا وبقوة حتى يحس الشعب الفلسطيني بدفء التضامن الذي يغنيه عن مثل هذه العمليات.
عوض أن نجلس أمام مكاتبنا ونذيع البيانات احتفاء بالعمليات الاستشهادية، علينا التفكير في هؤلاء الشباب، في أمهاتهم وآبائهم، في حقهم في الحياة، في كل الابرياء والتحرك بقوة لرفع المظالم عنهم، عوض الاستكانة لعجزنا وجبننا وترك شعب بكامله فريسة لمخالب قطاع طرق وإرهابيين.

الطيب حمضي
avril 2004

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi