الأبارتايد الجديد‮

قبل سنوات، كان الصديق محمد يجول بنا بسيارته ببريتوريا وجوهانسبورغ بجنوب إفريقيا. ولأنه مستقر هناك ويعرف خبايا البلاد، لم يكن يغامر بنا للدخول إلى مناطق الفقر بجوهانسبورغ، وينصحنا كلما صعدنا لسيارته بإغلاق نوافذها وأبوابها من الداخل، وبعدم الابتعاد عن المناطق الآمنة، للحفاظ على حياتنا وأمننا. فالجرائم هناك ترتكب كل لحظة: (أذكِّر بأن جنوب إفريقيا دولة كبيرة ومتقدمة وبنياتها التحتية والاقتصادية شامخة على عكس ما يعتقده الكثير منا). انتهى نظام الأبارتايد (APARTHEID) منذ أربعة عشر سنة بعد أن استمر زهاء نصف قرن (من 1948 إلى 1991). لكن مخلفاته لازالت قائمة: سكان يعيشون في بحبوحة، وهم البيض أو الأفريكانرز الذين جاءوا من أوربا -وهولندا خصوصا- وآخرون (السود) يعيشون الفقر في مختلف مستوياته وأبشعها.
سنة 1948،طبقت حكومة جنوب إفريقيا سياسة اسمها: الأبارتايد. وهي تعني باللغة الأفريقانية: أبقه بعيدا. ومفاد تلك السياسة أن من مصلحة (!) المجموعات أن تنمو (!) نموها الخاص دون اختلاط مع المجموعات الأخرى!! الأبارتايد وزعت المجتمع الجنوب إفريقي إلى مجموعتين، واحدة لها كل الثروات والإمكانات والسلط، وأخرى لا سلطة لها ولا صوت لها ولا حقوق لها! هذا الفصل القانوني والاجتماعي تمت ترجمته ماديا من خلال فصل الأماكن والمؤسسات وحراسة أماكن البيض وثرواتهم بقوة الحديد والنار.
لماذا الحديث عن الأبارتايد الآن؟ نحن نعيش الآن المظاهر الأولى لنظام أبارتايد عالمي جديد. وبسبب موقع بلادنا بين عالمين: أوربي متقدم وإفريقي فقير، نحن شهود ومتابعون لنقل حي لمشاهد تأثيث نظام أبارتايد يقيمه العالم المتقدم (أوربا في حالتنا) لمنع وصول قادمين (مهاجرين) من عالم فقير (إفريقيا). نفس المظاهر تعيشها أمريكا الشمالية مع دول أمريكا اللاتينية، بل حتى الآسيوية. ولعل أقواها ما تعرفه الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.
أوربا والولايات المتحدة سنت قوانين متشددة للحد من الهجرة، ولم تكفِ تلك القوانين، فلجأت إلى وضع حدود وحواجز مادية: أسوار، أسلاك شائكة، وكلاب مدربة، كاميرات مراقبة...
نحن نعيش زمن العولمة: حرية تنقل السلع والخدمات والرساميل... حرية الحركة لكل شيء إلا ''شيئا'' واحدا لا حق له في التنقل. وهذا ''الشيء'' الذي نسي القائمون على العولمة تسهيل حركته ومروره هو الإنسان! في زمن العولمة، لا يحق لإنسان أن يدخل بلدا جارا مهما فعل، لا بطريقة شرعية، ولا حتى غير شرعية! أليس من حق الدول المتقدمة أن ''تنظم'' استقبال المهاجرين إلى بلدانها وحماية أنظمتها الاجتماعية؟ وهل ستقبل الدول المتقدمة استقبال إفريقيا كلها ذات يوم؟ سيكون من العبث تجاهل السؤال، رغم أن العديد من الباحثين يؤكدون أن الهجرة لا تؤثر لا على مستوى البطالة ولا على الخدمات الاجتماعية بالدول المستقبلة إلا بشكل طفيف وغير محسوس...
من جهة أخرى، أليس من حق مواطنين يعيشون الفقر والجوع في بلدان أنظمتها فاسدة، ومشغولة بالحروب والحروب الأهلية والسرقة، أن يهاجروا إلى أي بلد قد يضمنون فيه بعض الخبز والكرامة والاستقرار، مقابل أي عمل يقومون به؟.
سؤال ثالث. هل من المعقول أن تستمر الدول الفقيرة على ما هي عليه ولا تنجح إلا في إجبار مواطنيها على الرحيل نحو دول أخرى؟ ألم يحن الوقت بعد لتوضع على أجندة المجتمع الدولي مشاكل الفقر والتخلف والحكامة نفسها في إفريقيا لمساعدة أبناء القارة على التخلص من هذه الأنظمة والحروب والفقر؟ الهجرة لأسباب اقتصادية واجتماعية حق مشروع، مضمون بفضل حق آخر هو الحق في الحياة. وممارسة هذا الحق لن توقفها لا القوانين ولا الحواجز ولا الأسلاك.
أوربا تسن قوانين وحواجز للإبقاء على الأفارقة بعيدا عنها، أي سياسة الأبارتايد. هذه السياسة ستتفاقم كلما اتسعت الهوة بين الدول الغنية والفقيرة. وكلما ازدادت القوانين شدة، ازدادت المآسي على الحدود. فهل نقبل في المغرب أن نكون مشاركين في حماية نظام فصل عالمي جديد وحقير بقوة الرصاص؟!
الطيب حمضي

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi