كتلة الديمقراطيين: مع الإسلاميين أو مع الملك

يبدو لي أن هناك اتفاقا عاما على أننا أمام أزمة عمل سياسي. المغاربة يديرون ظهورهم لصناديق الاقتراع وللمؤسسات وللأحزاب. الانتخابات لم تعد تستقطب إلا المتحزبين والكثير من تجار العمل السياسي باعتباره أسهل وسيلة للاغتناء والرقي الاجتماعي.
إعادة عقلنة العمل الحزبي وإصلاحه وتقويته وإعادة توحيد اليسار وتقوية الصف الديمقراطي أضحى مهمة مستعجلة، لكنها مهمة، ولو نجحت، لن تساعد على فتح آفاق العمل السياسي بالمغرب وتأمين الانتقال الديمقراطي. ببساطة، لأن ظروف العملية الانتخابية (قوانين، فرقاء، أهداف الدولة، تراكم نوع من التجارب، إحباط الناخبين…)، هذه الظروف لن تنتج إلا ممارسة ونتائج شبيهة بما يقع اليوم، ولو دخلتها الأحزاب الديمقراطية موحدة ومنظمة...
المغاربة محتاجون إلى ظروف اقتصادية أفضل توفر لهم عيشا كريما، من مأكل ومسكن وتطبيب وتعليم... ومحتاجون إلى العيش بكرامة في دولة يسودها الحق والقانون. لذلك، فإن أكبر المخاطر التي تهدد المجتمع المغربي هو الفقر وغياب فرص التنمية، ثم الاستبداد، إنْ في المجال السياسي والحقوقي أو في المجال الاقتصادي، وكذا الخطر الذي تمثله الأصولية واحتمال تفشيها واستبدادها بالمجتمع.
المجتمع المغربي ليس مجتمعا متطرفا بطبعه، ولكن الفقر والحرمان والإحساس بالظلم بإمكانه قلب المعادلات.
المغرب في حاجة ملحة- وربما مستعجلة- إلى هزة قوية تعيد الطبقة الوسطى- بمفهومها الواسع جدا- إلى الاهتمام بالشأن العام، اهتماما فعليا وليس من باب التفرج. هذه الهزة لا يمكن أن يصنعها حزب أو عدة أحزاب مهما فعلت وأصلحت وطورت نفسها، لأن الإشكالية أعمق من الأحزاب نفسها. فالناخبون لا يرون فائدة من الانتخابات، لأنها عملية تُمارَس بكثير من العبث، وغير مفيدة ولا تغير الواقع كثيرا.
لذلك، أضحى مطلوبا إصلاح الأحزاب والعمل الحزبي، ولكن يجب الذهاب أبعد من ذلك لإرجاع الثقة للعمل المؤسساتي، وتحصين البناء الديمقراطي وإعطاءه النجاعة الضرورية لخلق التنمية ودولة الحق، وتحصين المجتمع ضد خطر الظلام.
الديمقراطيون والحداثيون بالمغرب محتاجون لقوة دفع، حتى يتمكنوا من المساهمة في خلق هزة داخل المجتمع. إصلاح ذاتهم، هذه مهمتهم. إنقاذ الممارسة السياسية بالمغرب هذه مهمة أكبر.
مشكلة الديمقراطيين والحداثيين ببلادنا، كما بالوطن العربي كله، سواء يساريين أو ليبراليين أو يمينيين، أنهم يؤمنون بأفكار حداثية، ويدافعون عنها، لكنهم يتوقفون عند حدود عدم "إزعاج" الحاكمين. يريدون قيادة التغيير، لكن دون التعارض مع الحاكمين! أفكارهم تبقى أفكارا في صحف وقنوات تلفزية لا يتتبعها أحد، لأن الناس تريد بالضبط تغيير الواقع وتغيير ميزان القوى الذي يستبد به الحاكمون. هؤلاء يسيطرون على كل مفردات العمل السياسي والاقتصادي ببلداننا. فالطبقة الحاكمة هي جزء من المشكل وأحيانا هي المشكل الأعظم!
تيار التغيير والإصلاح تقوده الحركات التي تعبر عن آلام الناس وآمالهم، عن طموحاتهم. الحركات التي تذهب في تحليلها لأسباب الأزمات إلى آخر المنطق وتناضل وفقه، لا أن تُخضِع المنطق والتحليل والمواقف للجبن السياسي والخطوط الحمراء والرقابة الذاتية والمنافع الشخصية.
لذلك، فإن الاكثر استعدادا اليوم لقيادة التغيير والإصلاح داخل الوطن العربي هي الحركات الإسلامية المعتدلة المرتبطة بالشارع والجريئة في طرح القضايا والدفاع عنها. هذه الحركات مؤهلة أكثر من النخبة الحداثية المستنيرة، ولكن العاجزة عن المواجهة. هده حقائق سياسية وسوسيولوجية لا علاقة لها بما نريد نحن وما نتمناه.
هناك مشكلتان: أولا، الحركات الإسلامية قادرة على قيادة الإصلاح والتغيير، ولكن هل قادرة على إرساء الديمقراطية عوض اغتصابها؟ المشكلة الثانية ببلادنا أننا أمام حركة إسلامية مهادنة أكثر من الأحزاب التقليدية نفسها. وهو ما يضيع عليها حتى قاعدتها الانتخابية عوض تقويتها!!
مع ذلك، فإن الديمقراطيين، اليوم أو غدا، سيواجهون سؤالا مركزيا: ما العمل للخروج من عنق الزجاجة وإخراج البلاد من محطات علامات الاستفهام؟ ليست هناك اختيارات كثيرة. الصف الديمقراطي في حاجة إلى تحالفات قوية لخلق ممارسة سياسية جديدة، ممارسة تحصن المجتمع ضد آفة الفقر والاستبداد والظلامية.
هناك طرح يقول بتحالف القوى الديمقراطية والوطنية مع الحركة الإسلامية المتنورة لخلق كتلة تاريخية مهمتها إنجاز الإصلاح والتغيير بالمغرب، مادامت الدولة والمحيطون بها ومراكز القوة يعاكسون أي مجهود إصلاحي ويعرقلونه ولايظهر ان المستقبل سيغير رأيهم. مشكلة الكتلة التاريخية أنها تُدخِل في صفوفها قوى دينية، لم يثبت لحد الساعة أنها نجحت في بلد ما ولم تغتصب فيه الديمقراطية، عدا الحالة التركية، وهي حالة خاصة. أي أن هناك احتمال تعبيد الطريق أمام خطر أصولي جارف، عوض تحصين المجتمع ضده. لا أتحدث لا عن العدالة والتنمية ولا عن العدل والإحسان، كما هما عليه اليوم، لكن دينامية المجتمعات ستجعل هذه الحركات نفسها تتغير ربما نحو الاستبداد عند اشتداد عودها وربما إلى العكس، أي العقلنة بفعل تراكم تجارب أخرى .
هذا السيناريو الأول. السيناريو الثاني هو أن تستبق الملكية تطور حلقات التاريخ الحتمية وتتحالف مع القوى الديمقراطية، ليس بهدف تدجينها وجعلها في خدمة برنامج الدولة، بل العكس تكييف برنامجها مع مطالب المجتمع والقوى الديمقراطية في الفصل بين السلطات، والتحول نحو ملكية برلمانية، وإصلاح المؤسسات، والانخراط في محاربة الفساد، ورفع اليد عن التنافسية الاقتصادية، وردع نهب الملك العام وتبديده. إن التحالف بين القوى الديمقراطية والملكية من شأنه إعادة الحياة إلى العمل السياسي وإرجاع المغاربة إلى صناديق الاقتراع. تحالف يجعل الملكية شريكا في التغيير وليس القوى الديمقراطية حارسة لمصالح "خدام" الدولة! ادا فكرت الدولة بمنطق احتواء الديمقراطيين بشتى الوسائل وأهمها توزيع الريع الاقتصادي عليهم فدلك ليس تحالفا وبالتالي ستبقى الإشكالية في نقطة الصفر. التحالف هو انخراط الملكية في برنامج ديمقراطي يحقق للمجتمع انتظاراته. تحالف لايعني توزيع الحقائب على الديمقراطيين ولكن تمكين المجتمع من مؤسسات ديمقراطية حقيقية وفاعلة واقتصاد شفاف وعدالة اجتماعية تعطي للمؤسسات مدلولا. قد تبدو القضية مستحيلة لكنها ضرورة تاريخية للمجتمع وللملكية نفسها.
ليست هناك اختيارات كثيرة في دينامية العمل السياسي وحركية التاريخ، اللهم الذين يريدون الاتكال على الجمود كسياسة لربح الوقت! قد يكون خلق بعض الأحداث أو حتى الأحزاب حلا مؤقتا لتدبير الأزمات في انتظار حلول كبرى، لكن الحلول الحقيقية أصبحت اليوم تفرض نفسها.
الطيب حمضي
17 juillet 2009

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi