الدستور: بين خريف النخب وربيع الشباب

في سنة 1992، لما عرض ملك المغرب الراحل الحسن الثاني دستورا جديدا للاستفتاء، فتحت التلفزة المغربية في عهد إدريس البصري بعض برامجها المنتقاة لمناقشة مضامين التعديلات. طبعا، كان الحديث يومها عن ثورية التعديلات التي أتى بها الدستور وكيف أنها ستنقل المغرب إلى مصاف الدول الأكثر ديمقراطية من بريطانيا نفسها. (نفس الخطاب تم ترديده سنة 1996 بمناسبة التعديلات الدستورية).  

لنعد إلى صيف 92، يومها تابعت برنامجا حواريا شارك فيه أستاذ جامعي شاب في بداية مساره المهني الأكاديمي اسمه محمد معتصم، وبجانبه أستاذ القانون الدستوري اسمه القادري (ربما عبد القادر القادري). كان الشاب محمد معتصم متواضعا جدا أمام أستاذه، متواضعا من حيث اللياقة، لكن من حيث تحليل النص الدستوري وتفكيك آلياته، كان واضحا جدا أنه متفوق بكثير على أستاذه. وكنت قد قرأت مقالا للأستاذ محمد المعتصم حول الدستور في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، وهو عبارة عن دراسة جد قيمة، لأنها وضعت تحت مبضع التشريح النص الدستوري بكل ما يحيط به: التوقيت، المكان، الأشخاص، النصوص، الظروف... لما كنت أشاهد البرنامج من مدينة طنجة، قلت لأخي ولزوجته رحمها الله إن الدولة لن تترك هذا الأكاديمي بعيدا عنها، لأنها بالتأكيد ستحتاج إلى رجال من طينة الرجل، يعرفون كيف يفككون النصوص القانونية ويركبوها.لم تمر إلا شهور، حتى نودي على الرجل وزيرا مكلفا بالعلاقات مع البرلمان، ثم مكلفا بمهمة بالديوان الملكي، ثم بعد ذلك مستشارا. هذا الرجل هو الذي كلفه الملك اليوم، بصفته مستشاره، بالإشراف على الدستور الجديد، وهو الذي أشرف عليه من بدايته إلى أن يتم التصديق عليه، وبعدها القوانين التطبيقية.

لكن حين نقرأ مشروع الدستور لا نجده محكم الصياغة، بناء ولغة. هل هو تقصير من الرجل؟ هل فاتته هذه الملاحظات؟ لا أعتقد ذلك. ولكي أقول إني لا أعتقد ذلك ذكّرْتُ بمساره. لغته ليست قانونية صرفة، بل فيها حشو، وبعض النصوص مبهمة قانونيا، لأن النص الدستوري الحالي لم يخرج مثل السابق من جيب فرد أو جماعة كتبت النص وأعطته للملك الذي كان يضعه للتصويت أحب من أحب وكره من كره. السيد المعتصم اليوم - ولتسمح لي لجنة المانوني إن لم آت على ذكرها - كان عليه أن يقوم بعمل توفيقي، ليس بين مطالب الأحزاب والنقابات المختلفة، هذه لم تكن مشكلة، بدليل أن المشروع تجاوز كثيرا سقف غالبية هذه الهيآت، ولكن كان عليه أن يوفق بين الحد الأقصى الذي يمكن للدولة أن تقبل به من تنازلات والحد الأدنى الذي يمكن أن يمنع تطور الحركة الاحتجاجية بالمغرب، والحد المتوسط الذي تقبل به الدول الديمقراطية المتابعة للشأن المغربي.

خطاب 9 مارس وما تلاه لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة ما يصدح به الشارع المغربي والشارع العربي. لقد فهم الملك أنه لا يمكن صم الأذن عما يقع حولنا، فبادر إلى التجاوب مع ما يقع من أجل احتوائه. لذلك، يمكن القول إن مشروع الدستور الحالي هو دستور ممنوح من طرف شباب 20 فبراير والربيع العربي. المقتضيات التي أتى بها الدستور الحالي مهمة جدا ومتطورة  مقارنته مع الدساتير السابقة، ولم يكن من الممكن أن نحلم أن نصلها قبل مرور عشر سنوات ولربما أكثر، لأن النخبة تهالكت ولم تعد تعتبر الإصلاحات الدستورية مهمة بالنسبة إليها. قليلون الذين كانوا يطالبون بالإصلاحات الدستورية، وكان يتم التعامل معهم وكأنهم شواذ سياسيا. لكن الربيع العربي وشباب 20 فبراير في ظرف أسابيع جعلوا الدولة تسارع خطاها لإدخال إصلاحات دستورية مهمة وعاجلة.

لكن هذا الدستور المتقدم بالنسبة لسابقيه، هو بعيد جدا عن السقف المطلوب في إطار الربيع العربي. مشروع الدستور الحالي لا زال بعيدا كل البعد عن الملكية البرلمانية حيث الملك رمز للسيادة وحكم فوق الفرقاء، وبعيدا عن استقلال القضاء وعن توازن السلط.

أهم ما في الربيع العربي هو أنه كسر منطق الديمقراطية بالجرعات، الذي كانت تستعمله الأنظمة الاستبدادية لإطالة عمرها، ديمقراطية بالجرعات وفساد بالجملة. الربيع العربي قال، خلافا للنخب السياسية الشائخة والمتهاونة، الديمقراطية هنا والآن، وكذلك كان. بينما الدستور الحالي هو استمرار لمنطق الديمقراطية بالجرعات. صحيح، جرعات أقوى من السابق، لكنها ليست قطيعة مع السابق.

شخصيا، لم أتوقع أن يشكل النص الدستوري قطيعة مع ما سبق، لأن السياسة ميزان قوى، وليس هناك من أحد يتبرع على أحد في العمل السياسي. قد يطبع الفرد مرحلته بطابع خاص. وهكذا طبع محمد السادس مرحلته بمدونة الأسرة، وحقوق المرأة، وإعطاء الجنسية للأبناء من أم مغربية (وهي قضية فلسفة وقيم أكثر منها قانونية)، أشياء طبعا لم يكن للملك الراحل مثلا أن يقبل بها. ومع ذلك، ففي مضمار الاختصاصات ودور الملكية، فإن الدولة لها منطقها، وهو منطق ميزان القوى. والحركة المطلبية من شباب 20 فبراير وغيرهم لهم كذلك منطقهم، وهو منطق ميزان القوى. لذلك، يمكن القول إن الإصلاحات الدستورية الحالية أجّلت بعض الشيء تصاعد الحركة الاحتجاجية والمطلبية بالمغرب، ولكنها لن تحتويها للأبد. فالشباب العربي والعالم لم يعد يقبل بأقل من الديمقراطية هنا والآن... وهو ما لا يؤسس له كلية مشروع الدستور المعروض للتصويت. هذا المشروع ليس كارثة وطنية، ولكنه ليس كذلك دستورا مثاليا ولا حتى قريبا منه. هو أكبر بكثير من سقف مطالب أغلب الأحزاب المغربية ونخبها وأقل بكثير من سقف الربيع العربي. لذلك، يمكن اعتبار التصويت على الدستور محطة في الحراك الاجتماعي والسياسي المغربي ستتلوها محطات أخرى.

ملاحظة أخيرة: بقدر ما في المقتضيات من تقدم ولو نسبي، بقدر ما في الممارسات المصاحبة تراجع ونكوص: تجييش الناس من طرف السلطات، أعمال البلطجة، العزف على وتر الإجماع، تغييب الأصوات الرافضة... هذه الطرق الفجة تقززني وتخيفني من المستقبل. هذا دستور طرحه الملك للتصويت، لماذا تعتقد السلطات أن من واجبها القيام يما تقوم به؟ أليست هذه هي البنية السلطوية التي تجرنا إلى الماضي؟ هل نثق في تقدم المقتضيات والنصوص أم في تحجر الممارسة؟ ادا كانت الغيطة والطبل ووالبلطجة الممارسة بالتحكم عن قرب وعن بعد من طرف السلطات للتدليل على اجماع الشعب المغربي قاطبة على قبول الدستور ومباركته، ما الحاجة ادن لمواطن مثلي أو غيري أن يقول كلمته في الدستور؟ ما الحاجة لافتتاح مكاتب التصويت؟
الطيب حمضي 22 يونيو 20011

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi