صدام‮ ‬حسين

أتابع بغير قليل من الاهتمام ما ينشر ويذاع وينقل من صور وأخبار عن محاكمة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين وسير هذه المحاكمة وتصريحاته. ولحد الساعة، أحس بالارتياح والاطمئنان لعدالة السماء والأرض التي لم تترك مجرما يذهب إلى قبره قبل تأدية الحساب، وأحس بالاطمئنان أكثر لأن هذا المجرم له فرصة الدفاع عن نفسه وتبرئتها من الاتهامات التي وجهت إليه، سواء من طرف المحكمة أو من طرف شعبه قبل المحاكمة وقبل سقوط نظامه.
هل من حقي أن أصفه بالمجرم، وهو لايزال متهما؟! لست عضوا في هيئة المحكمة ولا وزارة ولا إدارة لمراعاة التوصيف القانوني. أنا مواطن عربي كنت شاهدا على الجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين في حق الشعب العراقي، والقتل والدمار الذي ألحقه بالشعبين الإيراني والكويتي، فقط لأن مزاج الرئيس كذلك!
ليس في نيتي اليوم الحديث عن الفظاعات والجرائم التي ارتكبها صدام حسين ومعاونوه في حق الشعب العراقي. فالأمر يتطلب حيزا أكثر من هذه المجلة، فالأحرى الزاوية! لكني سأخصص الزاوية للقراءة الأخرى للمحاكمة: ماهي إسقاطات المحاكمة الجارية على الشارع العربي شعوبا وحكاما؟
صحيح أن الظروف التي أطيح فيها بالنظام العراقي وظروف القبض على رئيسها وظروف تشكيل وسير المحاكمة، هي ظروف غير عادية، لأن للاحتلال الأمريكي اليد الطولى فيها. لكنها مع ذلك محاكمة وأكثر من عادلة -لحد الساعة- إذا ما قورنت مع العدالة الممارسة في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. أما إذا قورنت مع ما كان يمارسه صدام، فالمحاكمة جزء من ''الخيال العلمي'' الذي لم يكن لأي عراقي أن يحلم به! ومع كل ذلك، فإن من حق صدام أن يتمتع بمحاكمة عادلة. إنه إنسان وله حقوق كباقي البشر!
هناك فائدتان أساسيتان تنفذان إلى الحياة اليومية للشارع العربي من وراء المحاكمة. الأولى، تهم تمثل الشارع العربي لمفهوم الزعامة والعدالة. والثانية، تهم الحكام العرب المستبدين ودائرة المحيطين بهم وتمثلهم للمسؤولية.
الشارع العربي، مثله مثل الشارع العراقي، جزء منه خرج متظاهرا محتجا على محاكمة ''البطل''، مطالبا بإطلاق سراحه بلا قيد ولا شرط، لأنه الزعيم الرمز. وجزء آخر يتظاهر لإعدام صدام حسين فورا، ويعتبر المحاكمة مضيعة للوقت وإعطاء الفرصة لجلاد للظهور على التلفزيون واستفزاز الشعب العراقي، وخصوصا ضحاياه وضحايا نظامه.
هذا المعسكر كما ذاك سيكتشف مع صور المحاكمة ماهية العدالة والحقوق. العدالة ليس هي إلحاق العقاب بالناس لمجرد أننا مقتنعون بالجريمة. العدالة هي أن يطال العقاب المجرم بعد إثبات التهمة عليه، وإعطائه فرصة الدفاع عن نفسه. والعدالة ليست هي أن نسمح لأي كان بارتكاب الجرائم وعدم المحاسبة عليها تحت أي ظرف مهما كان إلا ما تقرره العدالة، أي لا إفلات من العقاب، أو أن يكون العقاب موازيا للجرح الذي نحس به وموازيا لحجم رغبتنا في الانتقام. العدالة هي أن يكون العقاب موازيا لما ينص عليه القانون، والقانون وحده.
من جهة أخرى، أتصور وضعية الذل التي يعيشها الحكام العرب المستبدون أمثال صدام أو أقل أو أكثر منه، وهم يتابعون صوره وأخبار المحاكمة. متيقن يقينا تاما أنهم كلهم يفضلون لو أنه أُعدِم قبل المحاكمة حتى لا يعيشون ولو ''إعلاميا'' ما يمكن أن تكون عليه أوضاعهم هم أنفسهم في يوم ليس ببعيد! وحين ستتطور المحاكمة، سيصل المتهمون إلى مرحلة تحديد المسؤوليات: من أعطى الأوامر وكيف ومتى ومن نفذ؟! كل هؤلاء المحيطين بحكامنا الذين ينفذون أوامر الحكام حتى وهم يعلمون أنها مخالفة للقانون تحت تبرير أنها صادرة من فوق، وأنها رغبة ''الرأس الكبيرة''، كل هؤلاء سيشاهدون درسا تطبيقيا في المسؤولية. وسواء شاهدوا أو لم يتابعوا المحاكمة، فإن المحاكمة في حد ذاتها بمثابة دق لناقوس علّه يوقظهم من سباتهم. ويوم يطلب منهم الدوس على القانون، عليهم تذكير وتنبيه حكامهم عوض الامتثال والاستقواء على شعوبهم.
إن المحاكمة طريق نحو تحقيق العدالة. أتمنى أن تستمر على نفس المنهاج الذي يديرها به رئيس الهيئة المقتدر لحد الساعة. والمحاكمة وسيلة بيداغوجية لكي تتمثل الشعوب العربية فعليا حقيقة العدالة، ولكي يتمثل الحكام العرب أي منقلب سينقلبون لكل من استمر في نهجه. وهي محاكمة لكي يتشافى شعب كامل من آثار السياط والاغتصاب والقتل وإهدار الكرامة.
ليس لأن صدام واجه أمريكا ننسى أنه كان مجرما حتى النخاع.
الطيب حمضي

ليست هناك تعليقات:

clés

الطيب حمضي . المغرب . العالم العربي . الديمقراطية . العدالة . المواطنة .المشاركة . الواقع السياسي . حقوق الإنسان. التنمية. الإرهاب. الأحزاب. العلاقات الدولية. المغرب العربي. الدبلوماسية. Tayeb Hamdi